لا شك أنّ ألعاب الصبية والفتيات القديمة، تندرج ضمن الفنون الصوتية والحركية، وبالتالي فهي أفعال تتصف بالحركة والأداء، وتتطلب من لاعبيها القدرة والمهارة إلى جانب اللياقة الجسدية، والمهارة الحركية، والذهنية الصافية والمركزة، وبالطبع أنّ كل الألعاب التي كانت، وما زال الصبية والفتيات يلعبونها، ذات أصول وقواعد تتضمن الحركة، والإشارات، والكلام الأدائي، والقول المنتظم، والقدرة الذهنية العالية التي نسميها الذكاء الفطري، والذكاء والمكتسب.
واللعب أي كان شكله، وأي كان هدفه، فهو في الحقيقة نوع من التصرف والسلوك الإنساني، سواءً كان فردياً أو جماعياً. إنّ الغاية من اللعب له مدلول وهدف، والنتيجة التي يبتغيها اللاعبون من الجنسين هي اللذة، ثم أنه لهذه الألعاب فوائد جمة غير اللذة المبتغاة، وأهمها أنها تساعد على نمو أجسام من يؤديها، وخاصة الأطفال منهم لأنها رياضة ذهنية وجسدية. والألعاب الشعبية تتشابه وتتقاطع ليس فقط بين مدن الدولة الواحدة، بل بين عدة دول قد تكون متجاورة أو متباعدة فيما بينها، وفي المواقع الأثرية التي خضعت لتنقيبات أثرية منهجية، تم العثور فيها على لقى أثرية في مواقع عديدة من منطقة "الرقة"، و"الجزيرة"، وهي على شكل عربات صغيرة، ونماذج تمثل كل أشكال الطيور، ولعب أطفال مثل "الخشخاشة" كما يسميها أهل "الرقة"، وهي عبارة عن شكل بطة مزوّدة بثقوب صغيرة، وبداخلها قطع صغيرة من الحصى، فبمجرد تحريكها وهزها تصدر أصواتاً وحركةً تثير انتباه الأطفال.
كما أنّ بعض الرسومات الغائرة على بدن الجرار الفخارية الكبيرة، والفريسكات الجدارية التي تم العثور عليها في التلال الأثرية في أنحاء الوطن العربي، وفي إيطاليا، تُظهر بعض أشكال الألعاب القديمة مثل، لعبة "الدومنا"، ولعبة "الصكلة" بواسطة الحصى "رسومات مدينة "بومبي" في "روما".
قبل أكثر من أربعين عاماً خلت، كنا نلعب ألعاباً شعبية في الليل وفي النهار، لكن في أيامنا هذه لم يعد لها وجود، وهي اليوم تعتبر من الموروثات الشعبية، سواءٌ في المدن، أوالأرياف، أوفي البوادي، وهي اليوم تشكل حالة متفردة من التراث والثقافة الشعبية، توارثتها الأجيال عبر المئات من السنين، لكن قسماً منها انقرض، وقسم آخر مازال عالقاً في الذاكرة الشعبية، وقسم ثالث تطور بفعل التأثيرات والتبدلات الاجتماعية الخاضعة لقانون التطور والارتقاء. والغاية من هذه المقدمة هو تسليط الضوء على بعض الألعاب الشعبية التي كان يمارسها الصبية، والفتيات، واليانعين، وتبيان طرق أداءها، وأسس قواعدها، وكيفية لعبها، والمفردات، والأهازيج التي ينطق بها اللاعبون أثناء الأداء، لأنّ بعض الألعاب تشبه الأداء المسرحي. وتزخر منطقة "الرقة" بالكثير من الألعاب الشعبية، منها ألعاب متوارثة، وألعاب أخرى معاصرة، لكننا هنا سنسلط الضوء فقط على بعض الألعاب الشعبية، التي ما زالت عالقة في الذاكرة الشعبية، كونها ألعاب موروثة من ماضي المنطقة البعيد مثل:
لعبة "الختيلة": تلفظ في اللهجة الرقية المحلية "ختيلة"، وبعضهم يلفظها "غميضة"، وكلمة ختل تعني في القاموس، ختلهُ ختلاً، وختلاناً: أي تخفَّى له وخدعه عن غِفلةٍ، فهو خاتلٌ وختَّال، ويقال: خَتَلهُ في الحرب، أي داورهُ وطلبهُ من حيث لا يشعر، والخِتلُ، هو الموضع الذي يُختتَلُ أو يختبئ فيه، وخاتلهُ، أي خادعهُ وراوغهَ، ومن فعل ختُلُ أشتق اسم هذه اللعبة الشعبية المشهورة في "الرقة"، وما زال الأطفال اليافعين يلعبونها في أرياف "الرقة".
هذه اللعبة معروفة منذ الأزمان القديمة، وقد وردت الإشارة إليها في كتب التراث، وتحدث عنها "الجاحظ"، يلعبها الصبيان خارج المنزل، وتلعبها الفتيات داخل الدار خاصة إذا كانت الدار واسعة، وفيها مجموعة من الغرف، حيث تنقسم الفتيات إلى فريقين، يكون فيها الفريق الذي سيختبئ في أركان البيت، أكثر عدداً من الفريق الذي سيقوم بالبحث عن الفتيات المختبئات، حيث تطفئ الأنوار، ويقف الفريق الذي سيقوم بالبحث ووجوههم إلى الحائط، أما الفريق الثاني يبدأ في الاختباء في أركان وزوايا البيت، وبعد عدة دقائق يبدأ الفريق الأول بالبحث عن الفريق الثاني، فإذا هو عثر على ثلثي العدد يكون هو الفريق الرابح، ثم تبدأ الكرة مرة ثانية، حيث يقوم الفريق الفائز بالاختباء، وما على الفريق الآخر إلاّ بالبحث عن المختبئات، وهكذا تستمر اللعبة عدة أشواط.
لكن الصبيان يلعبونها على نفس المبدأ وبشروط مسبقة، وفي مكان أوسع وقد تنتشر اللعبة على أرض حي كامل من القرية. يلعبها الصبيان عندما يكون القمر بدراً، فيجتمع أكثر من عشرة من الصبية، حيث ينقسمون إلى فريقين، بنسبة /4/ على /8/، ثم يبدؤون بسحب القرعة على من هو الفريق الذي سيختبئ، ومن هو الفريق الذي سيقوم بالبحث عن المختبئين. بعد تحديد مهمة كل فريق، يقف أحد اللاعبين والقمر من خلفه، حيث يقوم لاعب آخر بوضع علامة على نهاية ظله "فيئه"، ووضع علامة من الحجر عند مكان مداسه، ويقوم لاعب ثالث بقياس ما قدره خطوة واحدة على يمين علامة نهاية ظل اللاعب الأول، وهذا هو الشرط الأول بين الفريقين، الذي ينص أنه يحق للفريق الذي سيقوم بالبحث عن الفريق المختبئ مدة لا تتجاوز وصول نهاية ظل اللاعب الأول نهاية هذه الخطوة، فإذا تجاوزها الظل، ولم يعثر فريق البحث على ثلث عدد المختبئين، يكون الفريق المختبئ فائزاً، وعلى الفريق الأول تقديم العشاء لهم، وهذا هو الشرط الثاني، أما إذا استطاع فريق البحث عن المختبئين إمساك أربعة من المختبئين قبل بلوغ الظل نهاية الخطوة، فما على هذا الفريق إلاّ تنفيذ الشرط المتفق عليه بين الفريقين، وهو تقديم الطعام، أو شراء الحلويات وخاصة حلو "المشبّك"، وأي كان الفائز، فإنً الجميع بعد تناول الطعام وأخذ استراحة قليلة يبدؤون الكرة ثانية، وأحياناً تستمر اللعبة فترة طويلة من الزمن، ويتخلل البحث عن المختبئين حركات جري سريعة، وسؤال المارة فيما إذا شهدوا أحد المختبئين، وتعتبر هذه اللعبة الشعبية من الألعاب المحببة إلى نفوس الصبيان، لما فيها من حركة ومرح ونشوة الانتصار على الفريق الآخر، وأيضاً الطعام والحلو.
لعبة شريظ راح: وبعضهم يلفظها "شظيظ راح"، وكلمة شظي القوم، وهي قطعة من العظم، وشريظ راح، أي إن أحدهم رمى قطعة العظم بعيداً، فما على الجماعة إلاّ بالبحث عنه، فمن يجده فما عليه إلاّ الوصول إلى الهدف دون أن يمسكه أحد.
هذه اللعبة يلعبها الكبار والصغار معاً، وتلعب ليلاً، خاصة في الليالي المقمرة، وتكون اللعبة على الشكل التالي: تقوم هذه اللعبة على تقسيم اللاعبين إلى فريقين، في البداية يقف جميع اللاعبين ووجوههم مسنودة إلى جدار أو أي علامة أخرى يسميها أهل "الرقة"، "المجح"، أو "الماد"، أثناء ذلك يتهيأ اللاعبون وكأنهم على خشبة المسرح، حيث أن اللاعب الذي يرمي العظم يرفع صوته عالياً بقوله "شظيظ"، فيرد عليه اللاعبون بأعلى أصواتهم "راح" أي راح بعيداً، ويضيف اللاعب الأول الذي يرمى قطعة العظم بصوت عالي "عدا المراح"، فيجيبه الآخرون بقولهم "ما لو قفل ولا مفتاح"، ثم يرمي "الشريظ" أو "الشظيظ" إلى أبعد مسافة ممكنة، ويدير وجهه رأساً إلى المحج كسائر اللاعبين الآخرين، وعند سماع الجميع صوت ارتطام قطعة العظم بالأرض يجرون مسرعين للبحث عنه، وذلك حسب تقديراتهم لمكان السقوط، تقوم المجموعتان بالبحث سوية عنه، وصاحب الحظ الذي يعثر عليه، يجب أن يخفيه مع مناورة واضحة في الموقف، حتى تتسنى له الفرصة بالعدو، والوصول إلى الماد، وخلال ذلك يحاول الفريق الآخر بالحصول على "الشظيظ" قدر الامكان، وبذلك تبدأ عملية صراع بين الفريقين، فإذا وصل فريق اللاعب الذي رمى "الشظيظ" إلى المحج يكون هو المنتصر، ويستأنف اللعب من جديد، وإن خسر الشوط ينتقل اللعب إلى الفريق الآخر.
وهذه اللعبة ما زالت حيَّة في بعض الأرياف السورية، ولها مسميات مختلفة، وكذلك هي معروفة في بعض دول الوطن العربي، ففي السعودية تسمى "اعظيم وضاح"، و"عظيم ساري"، وفي اليمن "عظيم صاح"، وفي السودان "عظم وضاح"، و"كعوت"، و"شليل"، ويغني اللاعب الذي يرمي العظم أولاً بقوله:
شليل وينو، ويجيبه الآخرون: ختفو الدودو، ويضيف الأول: شليل وين راح، فيجيبه البقية: ختفو التمساح. وقد تتكرر اللعبة، فتستمر ساعات وساعات خاصة في الليالي المقمرة صيفاً.