تشير الإحصاءات الرسمية أنّ عدد سكان قضاء "الرقة" في عام /1900/ ميلادي بحدود /21295/ ألف نسمة، وعدد القرى بلغ /68/ قرية، وعدد سكان المدينة لم يتجاوز الأربعة آلاف نسمة تقريباً. أما مساحة الأراضي الخاضعة للاستثمار فيها، فقد بلغت بحدود /21295/ دونماً، وكانت هذه المساحات تستثمر بعدة طرق:
الطريقة الأولى: بالري المباشر بطريقة "الغراف"، وهي طريقة يدوية انقرضت بعد عام /1930/ ميلادي. والطريقة الثانية: الري بواسطة "السكور"، وخاصة على ضفاف نهر "البليخ"، حيث يسد الناس مجرى النهر بواسطة الأحجار الكبيرة، والتراب، وحزم النبات، فيرتفع منسوب الماء خلف السدة، ثم تعزر الماء إلى جانبي السد أو السكر، حيث يقوم الزراع بجر الماء إلى الحقل بواسطة سواقي جهزت خصيصاً للحقول المراد زرعها.
الطريقة الثالثة: الزراعة البعلية، التي تعتمد على كمية هطول الأمطار في فصلي الخريف، والشتاء، وبداية شهر الربيع، وخاصة في شهري آذار، ونيسان، وإن هطلت الأمطار في بداية أيار التي تفيد زراعة الحنطة.
الطريقة الرابعة: زراعة الخضروات الصيفية على ضفاف نهر "الفرات" بعد انحسار الفيضانات في فصل الربيع، التي مارسها أهل مدينة "الرقة"، والتي سموها بـ"القبيات"، وأعتقد أنً كلمة "قبيات" مشتقة" من كلمة "قبوة" أو من كلمة "تقبيع"، حيث هناك وقت معين في فصل الربيع عندما يقوم زراع مادة القطن يسمى بوقت "التقبيع"، حيث يقوم الفلاحون بهذه العملية، وذلك بحفر نقرة صغيرة يضع الفلاح فيها حبات "بذرة" القطن، ثم يضع فوقها كمية قليلة من التراب، وبعد السقاية وجفاف التربة، تقفع هذه البذور بفعل ثبات نمو نبتة القطن أسفل التربة مشكلة ما يشبه شكل القبة من الأعلى، وإذا ما أزيلت باليد تظهر لنا نبتة القطن الخضراء.
إذاً عندما استقر القادمون الجدد إلى مدينة "الرقة" في بداية القرن الماضي، داخل أسوار المدينة القديمة، بدءوا يمارسون عدة أعمال منها زراعة الخضار "القبيات" في فصل الصيف، وذلك بعد انحسار مياه النهر إلى مجراه الأساسي، حيث تتشكل طبقة من الطمي، وهي الأتربة التي جرفتها مياه الفيضانات في شهر نيسان من كل عام. أسفل طبقة الطمي هذه تتوضع رمال النهر الأساسية، والتي تسمى بـ"الإحساء" كونها تحتسي الماء أي تتشربه وتحافظ عليه "تخزين الماء"، لذلك أثناء عملية زرع البذور لا يحتاج الزراع إلى السقاية، لأنً جذر النبات يرتوي من المياه التي تختزنها طبقة الرمال الموجودة أسفل طبقة الطمي.
كان أهل "الرقة" بهذه الطريقة يزرعون أغلب أنواع الخضار المعروفة آنذاك مثل: البطيخ الأحمر "الجبس"، أو "الدبشي"، والكلمة مأخوذة من كلمة "دبش" الشيء المكوّر، ويسميه أهل "العراق" بـ"الرقي"، كون هذه زراعة هذه المادة اشتهرت بها "الرقة" منذ العصر العباسي، وكان، كما هو الحال في أيامنا هذه، يصدر إلى "العراق" بكثرة.
وأنا أميل إلى أنّ هذه التسمية مأخوذة من كون، الأرض التي سميت بها "الرقة" بـ"الرقاق"، حيث أنه بعد انحسار ماء النهر تتشكل مجموعة من الرقاق التي تصلح جيداً لزراعة البطيخ الأحمر "الرقي"، فسموه أهل "العراق" بـ"الرقي"، وتلفظ بالكاف اليمنية المخففة، ومنه يصنعون مربى "الرقي" الذي تشتهر "العراق" اليوم بصناعته.
وفي دول الخليج العربي يسمى البطيخ الأحمر بـ"الحبحب"، أو"الجح"، وهي تسمية أهل "البادية".
كما أنّ أهل "الرقة"، كانوا يزرعون البطيخ الأصفر، والشمام، والباذنجان، والفليفلة الخضراء، والفاصوليا، واللوبيا ويسميها "الرقيون" بـ"العوين"، والخيار. أما مادة البندورة، فقد عرفها أهل "الرقة" بعد عام /1918/ ميلادي، وسموها "فرنجي"، كون بذرتها أتت من بلاد "الإفرنج"، أو لأنّ لونها الخارجي أحمر مثل لون الإفرنج والله أعلم.
وكانت المساحات التي تزرع فيها هذه المواد تسمى بـ"القبيات"، وما زال أهل "الرقة" يتذكرون تلك الأيام، ويتحدثون عن مذاقات تلك المزروعات من الخضار الطيبة المذاق، كونها كانت تشرب من ماء "الفرات" المخزن، حيث لا مبيدات، ولا سماد كيماوي، ولا غير ذلك من المواد التي تغير طعم المذاق الطيب الأصيل.
أما "المقاثي" يسميها أهل "الرقة" "المجثاة"، وهي مشتقة من كلمة "القثاء" أو"القثة"، حيث كان الزراع في أرض الزور بعيداً عن النهر يزرعون كل أنواع الخضار التي ترتوي بمياه السقي بواسطة "الغراف"، وهي طريقة غرف الماء بواسطة "الدلو" التي تجرها الحمير أو البقر من الآبار، وعندما عرف الناس المولدات التي تعمل على الديزل، قاموا بجر المياه من نهر "الفرات" لسقاية مساحات أوسع من الأرض، وكان البعض من سكان الريف يسمون "المجاثي"، "بقجات"، وهي لفظة تركية، حيث تخصص الفلاح مساحة /200/ دونم داخل حقل القطن يزرع فيها كل أنواع الخضار الصيفية، مثل، الكوسا، والبامياء، الفصوليا، والبازلاء، والخيار، والعجور، والجبس، والبطيخ الشمام، والباذنجان، والبندورة، والقرع، والفليفلة وحتى الجبس المروي.
الكثير من أهل "الرقة" في أيامنا هذه يحن إلى تلك الأيام، والكثير يتمنى أن تعود تلك الأيام ولو بالمعاصرة، لكن على ما يبدو أنّ الحياة الحديثة المبرمجة بدأت تقتل فينا كل ما هو جميل، وقضت على حليمات تذوق الجمال.