ينحني بظهره ورأسه فوق تلك الخشبة المستوية الجامدة، بدأ يداعبها وينحت بها، يرسم عليها من بوح خياله وموسيقا تهيؤاته، ينحتها كما لو كان رساماً مجتهداً يقابل مرسمه ومسنده الخشبي يبدع أحلى وأغنى ما يروق له حينها.
في محل قديم من محال "الشيخ ضاهر" القديمة والمتناثرة هنا وهناك حول المسجد وقرب الساحة، محل صغير يعمل فيه شابان متوسطا العمر، من ورائهما معلمهما القديم في مهنته كل القدم، وعلى الطاولة الرئيسية عشرات الأزاميل متنوعة المقاييس تبعثرها لمساتهم لترسم لأعيننا مئات الأشكال والتماثيل.
في البداية كنت أتمنى أن أعمل في مهنة يعتمد فيها العمل على الفن والذوق والخيال، فلم أرَ سوى الخشب والحفر فيه، وتحويله من لوح خشبي عادي إلى زخرفة فنية تسرك كثيراً بخطوطها المنحنية والمحفورة بأزاميل مخصصة لهذه المهنة والتي تُسن بشكل شهري
"سهيل عبد الله" شاب في العقد الثالث من عمره، أحب مهنة راقت إليه بمكانتها الفنية وبطريقة العمل بها منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، بدأ يتعلم في البداية الحروف الأولى لفن الحفر بالخشب، ومن ثم تعلق بالرسم عليه، وحفر ما يرسمه في مخيلته، حسب قوله حينما زاره موقع eLatakia وأضاف: «في البداية كنت أتمنى أن أعمل في مهنة يعتمد فيها العمل على الفن والذوق والخيال، فلم أرَ سوى الخشب والحفر فيه، وتحويله من لوح خشبي عادي إلى زخرفة فنية تسرك كثيراً بخطوطها المنحنية والمحفورة بأزاميل مخصصة لهذه المهنة والتي تُسن بشكل شهري».
** في البداية يتطلب عملنا الكثير من الهدوء وسعة الخيال، لدينا العديد من الكتالوكات التي تصور فيها نماذج لأعمال خشبية موزاييكية، أحفر نماذج لغرف النوم وإطارات الأسرّة وزخرفات تمثل شخصيات ورسومات أسطورية، بالإضافة إلى كراسي غرف الضيوف وكنباتها ذات الأرجل والمسند الزخرفي المتعدد الرسومات والانحناءات، وعملنا يبدأ باعتماد الزبون على نمط أو نموذج من النماذج الموجودة لدينا أو التي نساعده على اختيارها وأحياناً يأتي الزبون إلينا بنموذج يحب أن نحفره له، الخطوة الأولى تبدأ برسم النموذج المراد حفره، ومن ثم يتم حفره بدقة متناهية باستخدام الأزاميل المخصصة، وبعدها يبرد الخشب جيداً، ثم ندهن النموذج بالكاز لتسهيل عملية الحفر ولتغير لون الخشب المستخدم، وأخيراً نتابع الحفر لإنهاء العمل الذي يتفاوت بزمن الوقت المستهلك لإنجاز العمل، وذلك حسب تعقيد زخرفاته ومساحته.
** هناك العديد من القطع الخشبية التي اشتغلتها خلال خمسة عشر عاماً من عملي، فالخشب يصبح بيدي وبعد برده ودهنه بالكاز لوحة فنية تنتظر مني الهدوء والتمعن قليلاً في رسومات كم تخيلتها حتى توصلها إلى الخشب لتصبح بعد الحفر الطويل، ولأكثر من ليلة ونهار لوحة فنية ومنحوتة خشبية في غاية الجمال، أغلب الأعمال التي قمت بتنفيذها شكلت الأثر الكبير في نفسي، فقد استغرقت فيها من الوقت الكثير ومن التعب والوقوف على القدمين الجهد الكبير إلى أن وصلت على ما هي عليه اليوم.
في محل "سهيل" الصغير شاب يتعلم منه كل ما تعلمه نفسه في الصغر، كل خبايا ومهارة المهنة القديمة والتراثية الباقية باستحياء خلف البيوت القديمة وخلف أكوام الزمان التي غمرت ما غمرت من بقايا زماننا الماضية، يقول "يوسف حمدو": «أحببت هذه المهنة، وتعلقت بها بفضل ما يقدمه لي "سهيل" من مساعدات كثيرة لأفهم وأتقن ما أقوم به، فخلال عامين أصبحت قادراً على العمل لوحدي وبمواجهة الخشب مهما كانت صعوبة الزخرفة المرادة، فحبي لما أقوم به بالبداية ووجود "سهيل" بقربي وعلى نفس الطاولة مكنني من اجتياز صعوبات عديدة وعقبات أكثر صعوبة مما توقعتها».
يتحدث "سهيل عبد الله" عن أدواته التي يستخدمها في مهنته ليقول: «أدوات عملي هي أدوات بسيطة تقتصر على تلك الطاولة الطويلة التي أقف عليها أكثر من ثماني ساعات يومياً، تغمرها أكوام الأزاميل المتعددة القياسات والأنواع والاستخدامات يتم بردها وسنها بشكل دوري للمحافظة على قدرتها وسلامتها، فالعمل في مهنتنا لا يحتمل التحديث أو التغيير، فلا تتم أي عملية زخرفة أو حفر بشكل آلي، العمل في مهنتنا هو عمل يدوي بامتياز».
