إنَّ الانقلاب الجديد في حياة مدينة "الرقة", قد حدث في بداية القرن التاسع عشر ميلادي، عندما بدأ الاستيطان الجديد لمجمل وادي "الفرات"، والجزيرة السورية, إذ كانت البداية متواضعة, ومع مرور الزمن توسعت مجموعة من المدن من بينها "الرقة".

الرحالة "زاخاو" زار "الرقة" عام /1879/ م, حيث أشار في كتابه "رحلة إلى سورية وبلاد الرافدين", أنه كان هناك مجموعة من السكان يقطنون في دور سكنية في مختلف أنحاء المدينة القديمة, وأنَّ عددهم يقارب الـ/100/ شخص ويقول: «أعتقد أنَّ التجار هاجروا إليها من مدينة "حلب"», وقبل عام من زيارة السيد "زاخاو" لـ"الرقة" كانت السيدة "الليدي آن بلينت", قد زارتها في عام /1878/ م, وقد أكدت أنها لم ترَ سكاناً يقطنون المدينة داخل الأسوار القديمة, وهي بذلك محقّة كونها مرّت بـ"الرقة" أثناء فترة الصيف, حيث يكون السكان في هذه الفترة خارج المدينة يمارسون زراعة الخضروات عند ضفاف النهر "القبيات", حيث يقطنون بيوتاً مشيدة من مادتي القصب والسوس, أما البعض الآخر من السكان, فقد رحلوا مع ماشيتهم إلى مناطق الشمال بحثاً عن مساقط الغيث ومواضع العشب والكلأ, وما أنْ يحل فصل الخريف حتى نراهم قد عادوا أدراجهم إلى مدينتهم.

أنها مدينة جميلة وحديثة جداً, وأنها كانت تضم مركز بريد وبرق, وأنَّ سكان المدينة كانوا يعيشون من التجارة مع العرب المحيطين بمدينة "الرقة", ومن صناعة قصب السكر، وحفريات اللقى الأثرية

أما انطباع عالم الآثار "هرتسفيلد" الذي زار مدينة "الرقة" عام /1907/م، فقد أكد: «أنها مدينة جميلة وحديثة جداً, وأنها كانت تضم مركز بريد وبرق, وأنَّ سكان المدينة كانوا يعيشون من التجارة مع العرب المحيطين بمدينة "الرقة", ومن صناعة قصب السكر، وحفريات اللقى الأثرية». وبعد خمس سنوات من زيارة "هرتسفيلد" "للرقة" في عام/1912/م قدم إليها الرحالة والعالم التشيكي "لويس موزيل", الذي أكد أنه وجد فيها سكاناً عددهم /300/ عائلة, ولكن هذا الرقم قد يكون نتيجة لتقديرات خاطئة وغير مؤكدة, وأنَّ الباعث لهذا الاعتقاد هو عدم وجود استقرار سكاني في المدينة في تلك الفترة الزمنية, لكي يشكل مساحة أفقية واسعة. وفي مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر ميلادي، قدمت إلى "الرقة" مجموعة من الأسر العربية التي أطلق عليها تسمية "القول", وكلمة "قول" جاءت من اللفظة التركية "قرة قول" التي تعني المخفر أو حراس الليل, وقد اختصرها العرب، والأقوام التي كانت تقطن حول خرائب "الرقة" آنذاك بـ"القول".

من الهجرات القديمة

كانت أوائل المجموعات المهاجرة إلى "الرقة", عبارة عن مجموعة من الأفراد والأسر, وليس على شكل عشائر, ومع محاولة الدولة التركية لتوطين العشائر، والأفراد في منطقة "الرقة", قامت الدولة العثمانية آنذاك بتأسيس المخفر "التركي" الذي أقيم في حدود عام /1860/م, وذلك لمراقبة عبور النهر، وحفظ الأمن في المنطقة. وهكذا نجد أنَّ المخفر قد شجع العوائل المهاجرة على السكن داخل الخرائب، والاستقرار فيها, بعد أن كانت ترتحل، وتنزل مع العشائر المحيطة بالمدينة.

من هنا نستطيع القول إنَّ تأسيس المخفر كان بمثابة دعوة لجميع القاطنين في محيط المدينة بأنْ يستقروا ويثبتوا مساكنهم داخل أسوار المدينة القديمة. لقد لعب المخفر دوراً كبيراً وأساسياً في جذب المهاجرين الجدد وتثبيت المسكن في "الرقة", خاصةً وأنَّ أغلب المهاجرين الجدد قدموا من مدينة "أورفه" التركية, وأنَّ أغلبهم كانوا يتكلمون اللغة "التركية, وكان هناك أيضاً مهاجرون أخر قدموا من "ديار بكر" ومن "العشارة", ومن الأسباب الأخرى التي شجعت هؤلاء المهاجرين على السكن في المدينة هو امتلاك أراضي المدينة وما حولها.

الأسر والعوائل التي سكنت مدينة "الرقة" في القرن الـ/19/ م، ومن أسماء هذه الأسر التي كانت النواة الأولى التي سكنت المدينة نذكر "الشعيب" و"الموسى الذياب" و"المحمد الحسن" الذين حلّوا في "الرقة" في عام /1815/ م, وسكنوا منطقة الدرعية مع "العفادلة", ويذكر الأستاذ الباحث "محمود الذخيرة" في كتابه "أهل الرقة", الجزء الأول, أنَّ هذه الأسر ترتبط برابطة القرابة وأنهم جاؤوا إلى "الرقة" بشكل أسر كبيرة يقودها رجل اسمه "موسى الذياب", وأنهم ينتمون في نسبهم إلى "حسن بن عبد الله بن عثمان بن جابر بن علي بن شعبان". و"جابر" الذي كان قد ترك قومه عندما عبر والده "علي" وعمه "محمد" نهر "الفرات"، عند منطقة "الشجيرية" غرب "دير الزور"، حيث ذهب إلى منطقة العشارة وكان ذلك بعد عام/1550/ م.

ومهما يكن فهذه الرواية ضعيفة جداً. أما الرواية الثانية (كتاب، عشائر الرقة والجزيرة، "محمد عبد الحميد الحمد")، فتؤكد أنّ "الشعيب" هم أولاد "حمد الحسن"، الذي أنجب ولدين إثنين هم: "شعيب" و"ذياب"، وينقسمون إلى الأفخاذ التالية، فخذ "الفرج الشعيب"، وفخذ "العبد الله الشعيب"، وفخذ "العيسى الشعيب"، وفخذ "الفصولات"، وفخذ "الموسى الذياب"، وفخذ "المحمد الحمادة"، وفخذ "جربوع الذياب"، وفخذ "ذياب الذياب".

الأكـراد، أكراد "الرقة" ينتمون في نسبهم إلى "إبراهيم بن علي بن حمد بن ويس" من الأنصار "الأزديين", و"الأزد" قبيلة عربية من "قحطان", وحسب كتاب "عشائر العراق للعزاوي", فهم جاؤوا من "قورن شهر" إلى منطقة "الرقة", وسكنوا عند عشيرة "الولدة" مجاورين بيت "مبروك السليمان", ثم ارتحلوا من منطقة "الولدة" إلى "الرقة", ونزلوا عند "العفادلة", ثم أنهم تصاهروا مع أحدى عشائر "العفادلة", ومع تأسيس المخفر في المدينة القديمة ارتحلوا إليها وسكنوا الحي الغربي واستقروا نهائياً, وسُميّ الحي باسمهم حتى حينه. ووجيه "الأكراد" من أسرة "جرف الطه" المرحوم "خلف القاسم", ومن بعده ابنه المرحوم المحامي "حمود الخلف القاسم" الذي كان رئيساً لمجلس مدينة "الرقة" في ستينيات القرن الماضي, وديوان الأكراد في"الرقة" في بيت "خلف القاسم". ومنهم أيضاً عائلة "الجدوع" الذين كان لهم حضور طيب ومبكر في "الرقة".

"البـكري" (البجري): تنتمي هذه العشيرة "حسب تسميتها الحالية" إلى قبيلة "طي" العربية, وهم من الأسر الأولى التي هاجرت إلى "الرقة", وتعايشوا مع عشيرتي (العفادلة والولدة), ولما ارتحل "البجري" من الريف الرقي إلى المدينة استقروا في الحي الغربي إلى جانب "الأكراد"، وما زال هذا الحي يسمى بحي "البجري" حتى يومنا هذا. ومن وجهاء هذه الأسرة المرحوم "رشيد العويد" الذي كان عضواً في المجلس النيابي السوري في نهاية أربعينيات القرن العشرين الميلادي, وأيضاً نذكر عائلة "الكعكةجي" وكان منهم أول رئيس مجلس لمدينة "الرقة" في بداية القرن العشرين.

"الشبلي السلامة": حسب المرويات الشفهية أنَّ جدهم "سلامة", قد قدم من أنحاء العراق من منطقة "الأنبار" من عشيرة "الدليم الزبيدية" إلى منطقة "الرقة" على أثر حادثة قتل, وقد أصر "سلامة" على البقاء في "الرقة" عند الشيخ "شلاش العلي"، رغم معارضة أقاربه له, وظل "سلامة" في ريف "الرقة" حتى تزوج من صبية اسمها "صالحة" من عشيرة "البجري"، من أسرة "الزوان", حيث رحل إلى المدينة، وسكن في الحي الشرقي فيها الذي سُمي بـ"حي الشبل السلامة", و"سلامة" هذا أعقب "شبلي"، ومن "شبلي" تنحدر كافة فروع "الشبلي السلامة" في "الرقة", وديوان "الشبلي السلامة" في بيت السيد الوجيه الفاضل المرحوم "إسماعيل العبيد".

"الكويدر": وهم من عشيرة الموالي في سورية, ويقال أنهم جاؤوا إلى "الرقة" من موقع "تل سلطان", وهذا المكان هو من مرابط "الموالي" ويقع إلى الشرق من "معرة النعمان", وكان أول من قدم إلى بلدة "الرقة" في بداية القرن الماضي المرحوم السيد "أحمد الجمعة", ثم لحق به الآخرون, ويشكلون الآن مجموعة كبيرة وديوانهم الآن في بيت العلوش, "محمد العلوش".

"البلـيبـل": جدهم الأكبر اسمه "سليمان" الذي كان مؤذناً, ويقال أنَّ صوته فيه عذوبة, لذلك اكتسب هذه الكنية, وكان "سليمان" هذا قد قدم من قرية تدعى "الجرن" تقع بالقرب من "الموصل" في العراق, وكان في شبابه يتاجر بالأقمشة, وقد انتقل من قريته "الجرن" إلى بلدة "الرها", حيث استمر في عمله التجاري, وبعد وفاته في بلدة "الرها"، أعقبه ابنه "مصطفى" الذي تزوج من "فصلة" بنت "بليخ العبيد" من فخذ "الذياب" من العفادلة, وأنجبت له أربعة أولاد هم: "محمد", "عبيد", "أحمد", "حسين"، ويعود نسب "البليبل" إلى "البوبدران" من عشيرة "البقارة", وديوانهم في فخذ "المحمد المصطفى" بيت المرحوم "عبد الرحمن الحسين العبد الله البليبل". وجميع ذريتهم في "الرقة" جاؤوا من رجلين هما: "أحمد الشيخ سليمان" وذريته، و"محمد الشيخ سليمان"، "بليبل" وذريته، رحم الله المتوفين منهم، وأطال بعمر الأحياء.

"العجيـلي": هاجرت هذه الأسرة بالتزامن مع أسرة "البليبل" من قرية "الجرن" الموصلية إلى بلدة "الرها", التي كانت مركزاً تجارياً نشطاً في بداية القرن الماضي, وكانت الصلة بين "عجيلي" وقريبه "مصطفى البليبل" جيدة عن طريق الرسائل التي تحملها القوافل التجارية المتجهة من "الرها" إلى بقية المناطق ولاسيما إلى بلدة "الرقة", وكان بين هذين القريبين نوع من المساجلات عن طريق كتابة الشعر الشعبي وخاصة "العتابا", ففي رسالة بعثها المرحوم "عجيلي" من "الرها" إلى قريبه "مصطفى البليبل" يستفسر فيها عن أحوال "الرقة" بشكل عام، وعن أحوال "البنات" بشكل خاص, ومن خلال بيت "العتابا"، الذي ردّ به "مصطفى البليبل" على المرحوم "عجيلي"، نستطيع القول أنّه كان بين الاثنين نوع من المراسلات الخاصة والحميميّة. يقول "مصطفى البليبل":

ريـام وردنـا الخلـي هبلهن/ تعبت وصاب دلالي هبلهن

ريام الزور يا عجيلي مهبولتهن/ تعيض عن الفهيم البرهـا

وبعد مضي من الوقت ارتحل "عجيلي" مع إخوانه "ويس" و"حرير" إلى بلدة "الرقة"، وكان له ثلاثة أولاد هم: "علوش" و"محمد" و"هلال"، وقد تصاهروا مع عشيرة "الولدة" الشعبانية، وذلك بزواج "حميد العلوش" من "دلة بنت عبد الحميد الحجو الملحم" الشاعر الشعبي، و"دلة" هذه تكون هي جدة الأديب الراحل "عبد السلام العجيلي"، وديوان "العلوش" في أسرة "علوش العجيلي" بيت "فيصل الحداد".

"الشبلي العلي": من الأسر التي هاجرت إلى "الرقة" في أوائل القرن العشرين المنصرم، وقد قدموا من منطقة "دير الزور"، ويعودون بنسبهم إلى عشيرة "البقارة" العربية، التي ورد ذكرها في النصوص في فترة ما قبل الإسلام، وتتكون هذه العشيرة الآن من عدة أفخاذ، نذكر منهم "الأبوهيف"، و"الخضر"، و"البدران"، وبيت العشيرة عند "وهب الخضر".

"الرمضان آغا": تعتبر هذه الأسرة من أوائل الأسر التي هاجرت إلى "الرقة"، وذلك منذ عام /1864/ ميلادي، وقد جاء جدهم الأكبر "رمضان آغا" بتعيين من السلطات العثمانية، وقد استقر في "الرقة"، وكان مديراً لطابور "الرقة". ويقال أنّ هذه الأسرة قدمت إلى "الرقة" من قرية في تركيا، أسمها "ديب حصار"، وهم ينحدرون من جذر عربي أصيل، ومنهم عائلة "الصطاف"، و"الثلجي"، و"الكياص"، "الطه العلو"، وديوانهم في بيت "إبراهيم الخضر".