«رغم أني تجاوزت الستين من عمري إلا أنني لست راضياً كل الرضا عن أشعاري التي آمل أن تكون في الآتي أفضل، وكتابتي للشعر الصوفي التوحيدي لا تتجاوز عُشر ما أنتجت لأنني أتجدد مع الشعر، وأتراود معه حسب وقائع الإيحاء، فتارةً يكتبني فتكون شحنة الإبداع أقوى وأجمل وتارةً أكتبه»…
هذا ما بدأه فيلسوف الكلمة- الشاعر "سلامي الملحم" في حديثه لموقع eSyria حول كتابته للشعر، والمقامات الشعرية التي عمل عليها، وحول نشأته الأولى والشخصيات التي كانت سبباً في نجاحه، وذلك خلال لقائنا به بتاريخ 13/10/2009 بمنزله في بلدة "ملح"
أعنى بتربية العصافير البرية ولاسيما عصفور "الكناري" و"الجنة" أنهما صديقاي، ومنهما تعلمت الكثير... قلت في وصف لي لهما: "أيها الشاعر المغرد أبدع/ من طباع الربيعي لحنا فريداً/ فقلوب العباد صمت صلاة/ وعيون الأشجار ترجو المزيدا"
وأضاف: «أستحضر في المقامات الشعرية التي أكتب بها الأريج الذوقي للشاعر حتى أؤنس سامعي بحسن المنطق وعذب الكلمة، وأذكر من تلك المقامات كتابتي للشعر الحِكمي والمرموز، حيث قلت في قصيدة حِكمية بعنوان الله: "من علم النملة أن الزاد صيفاً يدخر/ وعلم النحلة تسديس الخلايا المبتكر/ وكلما تطلبه تدركه مهما استتر/ ما العقل يهدي وحده في الكون لو يدري البشر"، ومن الشعر الحِكمي المرموز، قلت: "تسربل الكمال بالغرور/ فأتلعت عورته ومات/ لن تقبل به القبور"، وقلت في قصيدة حديثة أسميتها "نقوش على أحجار ومعادن مستوحاة من النحات الراحل مفيد بدوي": "يا إخوتي الوحوش لا ترقصوا لتهرب الدماء/ من عروقكم أو تشربوا الدماء/ بل ارقصوا لتنشروا الضياء/ أو تشربوا الصفاء/ يعمر الوداد في قلوبكم عروش"».
وقال شاعرنا حول نشأته الأولى وبدء تعاطيه مع الشعر: «عام 1946 كان مولدي في بلدة "ملح ـ السويداء" في بيت تقوى وعلم، تربيت فيه ومنه فتحت عيناي على مدرسة "كٌتاب" غير حكومية أسسها والدي الشيخ "محسن ملحم" عام 1929 الذي علم أجيالاً ووصاها على الفضائل، وعلومه منتقاة من مراجع أدبية مختلفة... مثل: مرجعٌ اسمه "الطريفة الأولى" والتلاميذ آن ذاك يحفظون محتوياته مع كتاب الأب "الشرتوني" في الصرف والنحو، وخلال السنة الثانية يتعلمون مبادئ الدين "جزء عمّا" ومعلومات من مبادئ الحساب وغيرها، وفي كثير من الأحيان تشعر أن التلميذ يتقن مبادئ العربية بما يعادل الشهادة الثانوية هذه الأيام، وأجرة التعليم السنوية حينها مدّاً من "القمح" أو /110/ قروش سورية».
وأضاف: «كان والدي بعد أداء الصلاة مع الفرائض ينشد الأشعار الدينية بصوت شجي، وغالباً ما كنّا نرى الدموع على عينه في حين نجلس بوضع "الأِربُعَاء" من باب التأدب إلى جانبه، هذه الأشعار تشربتها مع اللبن والماء وحفظت منها الكثير، وتلك الأيام من حياتي مرحلة تأسيس لذاتي حتى أن أول إرهاصاتي الشعرية كانت في عام 1955 أي في التاسعة من عمري، ومنها أختار هذه الأبيات: "يا طالب النور اقرأ في قصائدنا تلقى/ النصائح من روض الشعر الندي/ دع بلبل الروض يشدُ في خميلته/ يغازل الزوج قرب العش والولد/ وقولك العلم للجهال مهزلة/ كنثرك الدرّ في خمارة البلد"».
سرّ العلو
أما العلو الذي وصل إليه في أدبه الشعري، فقال عنه: «أقرأ يومياً بما لا يقل عن ساعتي دراسة، وإذا أسمينا المنتج الماضي نجاحاً فمردّ علوه إلى حب التعلم وحب الخالق والمخلوق معترفاً أنّ للأنثى فضلاً عليّ من أم وأخت وزوجة وحبيبة وإلى كوني نهلت المعرفة من علم التوحيد من مصادره المحلّية والعالميّة والطبيعيّة ولا تعصّب عندي، ولي دراسات قليلة في منحى الشعر لا تعدو عدّة محاضرات نقديّة وأدبية إضافة إلى قصائدي التي قدّمتها للمراكز الثقافية والمجلات الدورية… ولي ديوان مطبوع بعنوان "حديقة الشعر" صادر عن دار الجليل عام 1985 ولي مشاريع قيد الإنجاز ومنها ديوان أدبي بعنوان "صلاة على ضفة الفجر"».
كما أنه يعود خلف قصة نجاحه بالوفاء إلى بعض الشخصيات التي مرّت في تاريخه، حيث قال: «أدين بالوفاء للشاعر السوري الراحل "عبد الرحيم الحصني" الذي اتسم بالأصالة والرصانة، وله أكثر من ديوان... وأذكر من مدوناته بيتاً من الشعر يعادل ديواناً كاملاً، يقول فيه: "الشمس تشرق من دمشق فقل لمن/ أعياه طول الليل أن يترصدا". لقد علمني من حكمته الكثير وعرفني على الأستاذ الشاعر "متحت عكاش" صاحب مجلة "الثقافة الدمشقية" التي نشرت لي أكثر من عشرين قصيدة بأواخر الثمانينات وأوائل التسعينات من القرن الماضي، وأذكر الشاعر القدير "محمد منذر لطفي" المولود في "حماة"، وهو الذي دقق لي ديواني الأول "حديقة الشعر" أنني مدين لهم بكل فضل وتقدير».
وذكر "الملحم" خلال الحديث موقفاً جميلاً حدث معه في مضى، قال فيه: «حدث ذلك في العام 1977 في مكتب اتحاد الكتاب العرب في "حماه" بعد أن تعرفت إلى الذين أجهل... طلب مني الشاعر الصديق "محمد منذر لطفي" قصيدة دينية، فأنشدتهم قصيدة بعنوان "لاميّة التوحيد" تقول في مطلعها: "كلّ الجمال سوى جمالك زائل/ أنت العظيم وبحر جودك شامل" فلاقت الأبيات تفاعلاً وإعجاباً، وعندما وصلت إلى البيت الذي يقول: "أنت الجميل وما لحسنك منتهى/ وبحار حسنك ما لهنّ سواحل" قال الشاعر الراحل "علي الجندي" من الشعراء الأوائل في منطقة "السلمية ـ حماه": "هذا هو الإبداع البكر. لقد وقف شعر جلدي… أنظروا" وذلك كان منه إطراء لا أنساه».
وقال حول تأثره بالذاكرة المكانية: «للذاكرة المكانية دور إيحائي كبير في منح خاصية الإحساس بالبعد التاريخي للذهن واقتباس الفكر منه، ومنزلنا يمثل هذه الذاكرة.... فهو بناء "آرامي" الأصل شيّد فوقه بناء "روماني" متقن يمثل تكاملاً من الحضارة الإنسانية يعلمنا من تآخي الحضارات الكثير... ومضافة المنزل بنيت عام 1866 منذ بداية السكن في "ملح"».
وفيما يتعلق بهوايات أخرى يمارسها، قال: «أعنى بتربية العصافير البرية ولاسيما عصفور "الكناري" و"الجنة" أنهما صديقاي، ومنهما تعلمت الكثير... قلت في وصف لي لهما: "أيها الشاعر المغرد أبدع/ من طباع الربيعي لحنا فريداً/ فقلوب العباد صمت صلاة/ وعيون الأشجار ترجو المزيدا"»
خصوصية شاعر
وبعد السؤال عن أعمال وشخص شاعرنا، قال الباحث والأديب "نصر أبو إسماعيل": «إن خصوصية الشاعر "سلامي الملحم" في الشعر تأتي من خصوصيته في الحياة، فهو يعيشها بشكليها المادي والروحي دون أن يسمح لأحدهما أن يطغى على الأخر، أو قلّ أنه يعيش الأولى في ظل الثانية. فانخراطه في النشاطات الاجتماعية والفكرية والدنيوية لا يؤثر على ارتباطه بخالقه ذاك الحاضر في ذهنه أبداً، وكأنه يتمثل قول الشاعر: "ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا"».
وأضاف: «أما حياته كمربّ فأرى أنه لا غنى لنا عن قيم روحية، ترسم لناس سواء السبيل، وتكون لنا عاصماً مرشداً وهادياً. ومن لا يتخذ من منهج أخلاقي ثبتت صحته دليلاً له، كان كحاطب ليل تدمي رجليه ويديه أشواك الحياة ويخرج منها صفر اليدين إلا من الإخفاق والخسران المبين، وهو يتمثل الجليل من تلك القيم».
السيد "نجيب بدوي" صديق الشاعر، قال: «عرفت بالشاعر "سلامي الملحم" قوة الذاكرة واتساع أفق المعرفة التي يتحلى بها كذلك قدرته الفذة في استنباط شواهد متراكمة في أعماق ذاكرته حسب المجال المعرفي الذي يكون مطروحاً وبسرعة عجيبة حتى أنك تحسب نفسك واقفاً أمام مجموع من البشر لا أمام شخص واحد».