لا شك أنه من الصعوبة بمكان الحديث عن لباس سكان المدن القديمة بسهولة، بسبب قلة المعثورات على قطع اللباس أثناء التنقيبات الأثرية، كون مادة القماش لا تقاوم طويلاً، وبالتالي فإن بعض المعثورات النادرة إلى جانب الأخبار الأدبية الوصفية التي دوّنها الكتاب، والرحالة العرب، وكذلك الرسوم الجدارية النادرة التي تم العثور عليها في القصور، والدور الخاصة أثناء التنقيبات الأثرية، قد ساعدتنا في تقصي الحقائق عن لباس أهل "الرقة" في العصر العباسي، وهي كثيرة، ومتنوعة، وبعضها ما زال لها استمرار حتى في زمننا المعاصر.

قبل قيام الدولة العربية الإسلامية، خضعت سورية، وسائر بلاد المشرق العربي لدول ثلاث هي الفارسية والإغريقية والرومانية، ولا شك أنّه كانت هناك مؤثرات تركت بصماتها على كافة مناحي الحياة لدى سكان المدن السورية، ومنها منطقة "الرقة"، لكن قبل ثلاثة قرون من ظهور الإسلام، خضعت منطقة الجزيرة السورية لقبائل عربية هي "ربيعة"، و"بكر"، و"مضر" التي كانت قصبتها "الرقة"، لذلك نجد أنّ تأثير الدول المحتلة لم يكن له نصيب واسع على نمط حياة السكان، فالمسكن والملبس والمأكل لدى أهل "الرقة" تميز بالطابع المحلي المشرقي العربي الأصيل، ومع وصول الإسلام إلى سورية، وفتح "الرقة" سنة /539/م، كان جلّ سكانها من العرب الذين كانوا يدينون بالمسيحية، قد دخلوا الإسلام طواعية، وبذلك حافظوا على موروثهم العربي القديم الذي ورثوه من خلال وجودهم في "البادية"، وعلى شواطئ الأنهر مثل "الفرات"، وروافده الرئيسة.

... أنه أول من غيّر لباس العلماء إلى هذه الهيئة التي هم عليها في هذا الزمان، وكان ملبوس الناس قبل ذلك شيئاً واحداً لا يتميز أحد عن أحد بلباسه

وما أن حلّ العصر العباسي، وأصبحت "الرقة" إحدى المدن الرئيسة، والتي أصبحت في فترة من الزمن مركز الخلافة العباسية، حتى أصبح الخليفة "هارون الرشيد" يقوم منها بالغزو تارة، وبالحج تارة أخرى، وبذلك قوي مركزها، وتمتعت بمكانة مرموقة بين مدن الخلافة، ونعم أهلها بعيش رغيد، وغناء متميز، كل ذلك انعكس على حياة السكان في المأكل، والمشرب، والمسكن، ولبسوا أحسن الملابس، بل وأفخرها. ورغم النفوذ الفارسي والتركي في العهد العباسي الأول، إلاّ أنّ سكان "الرقة" حافظوا على شكل اللباس، رغم التأثير الفارسي الواضح على لباس الأمراء والنبلاء، ويظهر هذا التأثير خاصة في الزخرفة والتطريز على لباسهم.

من لباس الرقيات

في عهد كل من"الهادي" و"الرشيد" و"المأمون" كان لباس الطبقة المترفة، هو مزيج من النمط الفارسي والعربي، لكن يلحظ فيه الروح العربية الواضحة المتمثلة في هدوء الألوان ورتابتها. كان الخليفة "المنصور" في بغداد يلبس الثوب الذي يطلق علي "الفلانس"، وكان هذا النمط من اللباس معروفاً في "الرقة" أيضاً، الذي يتميز بقصته الطويلة المخروطية، وكان الأمراء والنبلاء في "الرقة" يرتدون الملابس المطرزة، وبعضها محلى بالذهب والفضة، وكان العامة من الناس يلبسون "السروالة" الفضفاضة، وكذلك يلبسون القميص المخاط من مادة الحرير، ويلبسون الدراعة التي ما زال استعمالها شائعاً لدى أهل "الرقة" في زمننا الحالي، وفي المدينة والريف على حد سواء، كان أهل "الرقة" يلبسون القطفان والقباء والقلنسوة.

وكان الفلاحون والزراع يلبسون الإزار والقميص والدراعة، والسترة الطويلة "الجلابية" والحزام، الذي يسميه أهل "الرقة" بـ"السير" في الوقت الحاضر.

رجل في الزي الرقي

أما ألبسة القدم، فكان سكان "الرقة" ينتعلون الأحذية والنعال الجلدية، ومنها حذاء "الداسومة"، الذي ظلّ مستعملاً حتى الربع الأخير من القرن الماضي، واشتهرت مدينة "حلب" بصناعته.

ويذكر الكاتب والباحث "أمير علي" في كتابه (مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامي)، ط "القاهرة" /1938/ م، ص/387/: «أنّ خلفاء "بني العباس"، كانوا يظهرون في المواكب الرسمية، وهم يلبسون القباء الأسود، أو البنفسجي الذي يصل طوله إلى الركبة، وكان له فتحة عند الرقبة يسميها أهل "الرقة" "الزيج"، وهذا القباء كان مزوّداً بأكمام ضيقة، وفي عهد الخليفة "المعتصم" أمر بجعلها فضفاضة». وقد تطور هذا القباء، فأصبح طوله حتى القدمين وكان يرتديه الأثرياء من أهل "الرقة" في بداية القرن العشرين الماضي، وكان القضاة يلبسون العمامة، والزبون وقلنسوة طويلة حولها عمامة ذات لون أسود، وكان الأثرياء من الناس يقلدونهم في ملبسهم.

زي رقي

يذكر "ابن خلكان" في كتابه (وفيات الأعيان) الجزء الأول، ص /33/ عن "أبي يوسف" قاضي الخليفة"الرشيد" في"الرقة": «... أنه أول من غيّر لباس العلماء إلى هذه الهيئة التي هم عليها في هذا الزمان، وكان ملبوس الناس قبل ذلك شيئاً واحداً لا يتميز أحد عن أحد بلباسه». الشاعر "الصنوبري" يصف لباس أهل "الرقة"، بأنهم كانوا يلبسون الدرعات المخاطة من القماش الثخين، والمطرزة بخيوط ملوّنة، ومفتوحة، وفي أيامنا هذه، فإنّ الدراعة تُخاط من القماش الثخين أيضاً كون الناس يلبسونها في فصل الشتاء، ويلبسها الرجال والنساء على حد سواء.

أما قواد الجيش، فكانوا يلبسون الأقبية، والقمصان المصنوعة من خيوط حديدية متشابكة ومزدوجة، وتستعمل كدرع واقي ضد طعنات السيوف والرماح، ويوجد في متحف "الرقة" نموذج كامل من هذا النوع، تم العثور عليه أثناء التنقيبات الأثرية في موقع القصور العباسية. ومختوم عليه اسم صاحبه "الضحاك بن قيس".

أما الناس من غير العلماء، فكانوا يرتدون في منازلهم القلنسوة وحدها، فوق ثوب من الحرير ناصع البياض، ويذكر الكاتب "حسن إبراهيم حسن" في كتابه (تاريخ الإسلام) الجزء الثاني، ط عام /1964/ م، ص /429/ : «... ثم استعاضوا عن هذا اللباس بألبسة خفيفة بنفسجية اللون، وكان اللباس العادي للطبقة الراقية في العصر العباسي، يتألف من سروال فضفاض، وقميص، ودراعة، وسترة، وقطفان، وقنباز، وعباءة أو جبة».

في تقرير مقتضب صادر عن البعثة الأثرية السورية ـ الألمانية المشتركة، التي كانت تنقب في موقع القصور العباسية في "الرقة" عام /1984/ م، بقلم مدير الجانب الألماني المرحوم "ميخائيل ماينكة" حيث يقول: «... كان الأثرياء من الرجال والنساء في "الرقة" يلبسون في أرجلهم الجوارب الحريرية، وكذلك الجوارب المصنوعة من الصوف أو الجلد، وكانوا يسمونها في كافة أنحاء الخلافة بـ"قمرنيد"».

لباس المرأة: كانت المرأة في العصر العباسي تلعب دوراً كبيراً في الحياة السياسية والاجتماعية، وخاصة نساء الخلفاء والأمراء، ولا أدل على ذلك من الدور الذي لعبته السيدة "زبيدة" زوج الخليفة "هارون الرشيد" وهي في"الرقة"، وكذلك والدته "الخيزران"، ويشهد على ذلك بقايا قسم النساء في القصور العباسية، واقطاعات السيدة "زبيدة" في منطقة "الهني" و"المري"، قبالة مدينة "الرقة" من الجهة الجنوبية.

كان لباس المرأة الرقية في العصر العباسي يتكون بشكل عام من الملاءة الواسعة، والقميص ذو الرقبة المفتوحة "الزيج"، وتلبس فوقه رداءً قصيراً ضيق وخاصة في فصل الشتاء، وعندما تخرج المرأة الرقية للتسوق أو الزيارة، فإنها كانت ترتدي الملاءة وهي العباية، كي تغطي جسمها وتحافظ على نظافة وسلامة ثيابها، وكانت تغطي رأسها بالهبرية، وتلف فوقها منديل فوق الرقبة كما هو الحال في أيامنا هذه.

أما نساء الطبقة الراقية في المجتمع سواءً في "بغداد"، أو "الرقة"، أو في غيرهما من مدن الخلافة، فكن يتخذن من البرنس غطاء للرأس المرصع بالجواهر والمحلى بسلاسل ذهبية رقيقة وبالأحجار الكريمة، وكن أيضاً يعلقن الحجب بزنار البرنس للزينة.

كانت نساء الطبقة الوسطى يزين رؤوسهن بالوريقات الذهبية، وهذه عادة قديمة مستعارة من النساء التدمريات، فوق العصابة، وما زالت النسوة في "الرقة" يستعملن العصابة، وبهذا الخصوص تقول الأغنية الشعبية الرقية:

شطف جوز الهباري وراح ورّاد/ ونسف جوده على الكتفين ورّاد

شطف جوز الهباري ما كفاني/ يا شوف العين منهن ما كفاني

فوق العصابة المزينة بحبات اللؤلؤ والزمرد، وكن أيضاً يلبسن في أرجلهن الخلاخل، ويلبسن في معاصمهن الأساور الذهبية، وأما نساء الفلاحين فكن يتزين بالأساور الفضية والنحاسية وأيضاً الذهبية، وكن يضعن في رقابهن الأطواق من الخرز الملوّن، وبشكل عام كان لباس المرأة الرقية في العصر العباسي لباساً أنيقا وجميلاً، مما يدل على حالة من الرخاء والازدهار الذي كانت تتمتع به "الرقة" في العصر العباسي.