«تتميّز بادية "الرقة" عن الصحراء، وتختلف عنها في أوجه كثيرة، فالأمطار تهطل عليها مع ندرتها، وتنمو فيها كافة أنواع الشجيرات والحشائش والنباتات الشوكية، وتنتشر فيها قطعان الإبل والأغنام، وتتميّز بخصوبة تربتها، على عكس رمال "الصحراء" الحارقة، التي لا وجود لأي شكل من أشكال الحياة فيها، وكانت بادية "الرقة" وحتى الأمس القريب، عامرة، تجري وديانها في الشتاءات المطيرة، وتخضرّ أراضيها، وتوفّر الكلأ والمرعى للقطعان المنتشرة في أرجائها، فهي مصدر رزق لأعداد كبيرة من أهالي المحافظة، فيها تنتشر قطعانهم، وهي مصدرهم الوحيد للبروتين الحيواني.

جار الزمن على بوادينا، ولم يعد الغيث يغمر سهولها، ويجري في وديانها، وساهم الاحتطاب الجائر، والرعي العشوائي في تدهورها، فانعدم غطاءها النباتي، وزحفت الرمال لتغطي مساحات شاسعة منها، وتشققت وديانها، وجاعت القطعان التي كانت وحتى عهد ليس بالبعيد ترتع في سهولها الواسعة، فخسرنا مساحات شاسعة من الأراضي، وقطعانٍ كثيرة، فبعد أن كانت "البادية" ملاذاً آمناً للكثيرين، أمست صحراء قاحلة، تذرو الرياح كثبانها، وهجرها أهلها، وتقلّصت قطعانها، وأصبحت الهجرة، والبحث عن فرص عمل بديلة حلم سكان "البادية" وقاطنيها».

سعت الحكومة وحرصاً منها لإعادة إعمار "البادية" السورية، وتحقيق الاستقرار السكاني فيها، لإحداث هيئة عامة تتبع مباشرة لرئاسة مجلس الوزراء، وذلك لزيادة فعاليتها وتوفير الإمكانات اللازمة لمواجهة المخاطر التي تواجه "البادية"، وعملت الهيئة على توفير مراعٍ طبيعية دائمة التجدد للثروة الغنمية، وإعادة تأهيل البنى التحتية، وسيقوم الفرع بتحويل محمية "طوال العبا" الرعوية إلى محمية بيئية، على غرار محمية جبل "عبد العزيز" في "الحسكة"، وستبدأ المحمية بتربية الغزلان كمقدمة أولى في توظيف البادية للاستثمار البيئي الصحراوي

ذكر ذلك المهندس "محمود إيبش"، وهو يتحدث لموقع eRaqqa بتاريخ (27/8/2009)، عن واقع بادية "الرقة"، والإجراءات التي ساهمت في تدهورها وضعف غطاءها النباتي.

من آبار البادية

ويقول المهندس "ياسر السليمان"، مدير فرع مشروع "تنمية البادية" في "الرقة": «تنبّهت الجهات المعنية للخطر الذي يتهدد "البادية"، جراء ندرة تساقط الأمطار، وتعاقب سنوات الجدب، فأطلقت مشروعاً متكاملاً لإعادة إعمار "البادية" السورية، تمثّل في مشروع "تنمية البادية"، وبدأ المشروع عمله في عام /2000/ ولمدة ثمانية أعوام، على أن يشمل سبع محافظات من بينها محافظة "الرقة".

تشكّل "البادية" نحو /57%/ من المساحة الإجمالية لمحافظة "الرقة"، فـ"الرقة" بما فيها المدينة تقع ضمن "البادية"، باستثناء الشريط الشمالي الضيق، ويشطر نهر الفرات بادية "الرقة" إلى نصفين، شمال النهر وتسمى بادية "الجزيرة"، وجنوب النهر ويطلق عليها بادية "الشامية"، وفي هذا النصف ركّز المشروع عمله، الذي يقوم على أربعة مكونات أساسية، تتمثل في إعادة إعمار الحقول وإنمائها، وتوفير مصادر دائمة ومتجددة للمياه، وتنمية المجتمع المحلي، والتحصين الوقائي للثروة الحيوانية، ويعتمد المشروع على النهج التشاركي مع قاطني المنطقة، وجمعيات تربية الأغنام، وذلك في كافة المشاريع التي أطلقها منذ بداية عمله».

عمليات جمع البذور الرعوية

ويضيف المهندس "محمود الكراش"، مدير فرع "الهيئة العامة لإدارة وتنمية البادية" في "الرقة"، قائلاً: «سعت الحكومة وحرصاً منها لإعادة إعمار "البادية" السورية، وتحقيق الاستقرار السكاني فيها، لإحداث هيئة عامة تتبع مباشرة لرئاسة مجلس الوزراء، وذلك لزيادة فعاليتها وتوفير الإمكانات اللازمة لمواجهة المخاطر التي تواجه "البادية"، وعملت الهيئة على توفير مراعٍ طبيعية دائمة التجدد للثروة الغنمية، وإعادة تأهيل البنى التحتية، وسيقوم الفرع بتحويل محمية "طوال العبا" الرعوية إلى محمية بيئية، على غرار محمية جبل "عبد العزيز" في "الحسكة"، وستبدأ المحمية بتربية الغزلان كمقدمة أولى في توظيف البادية للاستثمار البيئي الصحراوي».

وأضاف المهندس الزراعي "مصطفى الحمادي"، قائلاً: «بادية "الرقة" أوسع من أن يعيد إعمارها مشروع مدته ثمانية أعوام، أو هيئة عامة ناشئة، كما أن المشاريع المستثمرة تعتمد أساساً على معدلات الهطول المطري، فالحفر التجميعية التي أنشئت، والآبار الجوفية، والبذور الرعوية التي تم نثرها، كلها تعتمد على مياه الأمطار، وقد ساهمت ندرتها خلال الأعوام الفائتة في موت هذه الغراس، وجفاف الحفر، وعدد من الآبار الجوفية، كل هذه الأمور مجتمعة جعل من عمل المشروع، والهيئة جهداً ضائعاً، وحلماً مستحيلاً في إعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار.

استزراع البادية

لعل المشكلة الأبرز التي تواجه بادية "الرقة"، هو نزوح سكانها بحثاً عن مصادر عيش بديلة، وكافة الآراء، والطموحات في هذا الميدان، تصب جميعها في إطار تحقيق استقرار سكان "البادية" وتوطينهم، ولكن السؤال، هل جملة الإجراءات المتخذة كافية لتحقيق هذا الهدف؟ أم أن المشكلة أكبر من ذلك بكثير؟ في إطار جولاتنا المتكررة على بادية "الرقة"، واطلاعنا على ظروفها، تبين أن معظم السكان قد هجروا قراهم، أو في طريقهم إلى ذلك، فانعدام الغطاء النباتي، وزحف الكثبان الرملية، وموجات العجاج شبه الدائم، جعل الحياة في هذه البقعة ضرباً من المستحيل، وذلك بغض النظر عن ظروف السكان الاقتصادية».

ويضيف "الحمادي" قائلاً: «لمواجهة هذا التحدي، أخذ توجه المحافظة مناحٍ عدة، تمثل الأول في تحريج مساحات من بادية المحافظة، لوقف زحف الكثبان الرملية، وتثبيتها، ولكن المشروع اقتصر على مساحة ضئيلة من بادية "معيزيلة"، ولم تحمِ الشجيرات المغروسة نفسها من الموت حتى توقف زحف الكثيب الرملي، أما المنحى الآخر فتمثل في إشادة مجمعين خدميين، الأول في بادية "الجزيرة" في تجمع "الطريفاوي"، والثاني في بادية "الشامية" بتجمع "الزملة"، وسيوضعان في الخدمة خلال العام /2009/.

يضم كل مجمع مخبزاً آلياً، ومركزاً صحياً نموذجياً، ومراكز إرشاد زراعي وبيطري، وأسواق تجارية، ومراكز طوارئ، وخدمة للكهرباء والمياه والهاتف، ومخافر للشرطة، إضافة لافتتاح ثلاث مدارس داخلية لأبناء "البادية" في "المنصورة" و"الكرامة" و"الجرنية"، وبلغت كلفة كل مجمع قرابة /24/ مليون ليرة سورية، ولكن هذه المشاريع أقيمت بعد نزوح أهالي المنطقة، فما هي الخدمة المنتظر أن تقدمها هذه المجمعات؟! ولمن؟!

وكان من الأجدى أن تطرح مشاريع اقتصادية عملاقة بحجم التحديات التي تواجهها "البادية"، ثم تأتي هذه المشاريع مكملة، ولبنة أخيرة في سياسة التوطين، وتحقيق الاستقرار السكاني».

وأضاف السيد "جمعة السعدون" من أهالي بادية "الجرنية" قائلاً: «لا نأتي بجديد إن قلنا أن مشاريع استصلاح الأراضي هي مستقبل المنطقة، وحلمها المنتظر، فمن خلال التوسع فيها يمكن إعادة إحياء "البادية"، وتحقيق عامل الاستقرار فيها، وإعادة من هاجر إليها، وقد ركّزت وزارة الزراعة خلال الأعوام الماضية جلّ اهتمامها في معالجة حالات التعدي على "البادية"، دون البحث عن أساس المشكلة، وسبل حلها ومعالجتها، فمنعت زراعة "البادية"، بذريعة أنها خزان استراتيجي للثروة الحيوانية، ومصدر من أهم مصادرها العلفية.

وواقع الحال يشير إلى غير ذلك، فأهالي "البادية" اعتدوا عليها، وحرثوها، وزرعوها بالقمح والشعير وأشجار الزيتون، وساهمت ندرة الأمطار في زيادة تدهورها، وتصحر أراضيها، لا سيما بادية "الجرنية"، وقد قامت المؤسسة العامة لاستصلاح الأراضي بإعداد الدراسات اللازمة لاستصلاحها، على مساحة /16/ ألف هكتار، تنفذ على مرحلتين، ولكن المشروع ما زال في طور الدراسة، وهو بحاجة لتوفير اعتمادات ضخمة للمباشرة بتنفيذه، علماً أن أراضي المنطقة ما زالت بكراً، وسيوفر استثمارها آفاق عمل واسعة لأهالي المنطقة، ويعيد الحياة إليها، ويؤمن الاستقرار لأهالي "البادية"، ويسهم في زيادة المساحات المروية في المحافظة، وبالتالي زيادة في الغلة والمردودية».

ويختتم المهندس "صالح الشواخ" الحديث عن "البادية" بقوله: «عجزت مديرية الزراعة على مدار عقود من الزمن عن حماية "البادية"، ولم تفلح مشاريع التنمية في إعادة الحياة إليها، وإحداث هيئة مستقلة للبادية لا يعني أننا سنعيد إعمارها في القريب العاجل، فالبادية وقاطنيها لن ينتظروا المطر طويلاً، ولن تفيدهم الحلول الإسعافية، من تقديم بعض الإعانات لهم، وتأمين الأعلاف لأغنامهم، وهم بدأوا فعلاً بالبحث عن فرص عمل بديلة، وهجروا البادية.

والأمر بات يتطلب إيجاد حلول عاجلة وجذرية، تتمثل في تنفيذ مشاريع الاستصلاح، عندها يمكن أن نحقق استقرار أهالي "البادية" في قراهم، ونعيد الحياة إلى أراضيهم، ويمكن حينها أن نلزم فلاحي هذه المناطق بالزراعات الرعوية، كالشعير الرعوي والبرسيم وغيرها، ونمنع زراعة الأشجار المثمرة، إن كنا نخشى على المصادر العلفية للثروة الحيوانية».