كما لم تخلُ صفوف الأدب الأخرى، كالرواية والقصة التي كتبها أبناء "الرقة" من السوداوية، وملامح الحزن كذلك كان الشعر. يقول أحد أبطال رواية (المغمورون) للدكتور "عبد السلام العجيلي"، لندى تلك الفتاة القادمة من المدينة: «نحن أبناء بادية قفراء وموحشة وجافة، حين كنت بعمرك كنت أسير الساعات في شمس القيظ المحرقة، على قدمي حتى أجد غديراً ماءه كدر موحل، أو بئراً أنزل فيه عشرين باعاً حتى أفوز بجرعة ماء أبرد بها لهاتي المتشققة من العطش».
في تلك البادية الجافة ذات المساءات الحزينة. عاش ابن "الرقة"، كما عاش ابن "الفرات" وابن "البادية" العربية بأسرها. بطبعه البسيط والقاسي بآن واحد.
الأمم تعبر عن خلجات قبلها بالشعر، قبل أن تعبر عن بنات أفكارها بالنثر
ومن حيث أن الشعر ديوان العرب، فلقد نقل لنا شعراء هذه المنطقة صور طبيعتهم بحذافيرها، وأخلاق أهلها، ومن يرد التعرف على أخلاقهم فليحفظ أشعارهم، ومثلما يقول "جبران مسعود": «الأمم تعبر عن خلجات قبلها بالشعر، قبل أن تعبر عن بنات أفكارها بالنثر». والشعر الرقي كترجمة لمجموعة من الأحاسيس التي تنتاب ابن "الرقة"، خلال حياته اليومية، أو نقل لصورة لحادثة عاشها، جاء يرتدي عباءة سوداء حزيناً.
اختلف الباحثون حول موضع الحزن في الأغنية الفراتية. أهو الشعر، أم اللحن، أم في الصوت؟
فريقٌ أفردها، وآخر ثنّاها، ومنهم من جمعها. والرأي الثالث أميل إلى الصواب من غيره، فعند استعراض الشعر الفراتي عامة، والرقي خاصة، نجد أن أغلب أبياته حزينة المعاني. بدءاً من القصيد، مروراً بـ"العتابا" و"الموليَّا" و"النايل"، وحتى "التشاطيف". وقد أرجع الباحثون والشعراء السوداوية إلى أسباب عدة.
يقول الشاعر "محمود الذخيرة": «تتسم القصيدة الفراتية بالسوداوية والحزن، وذلك لأسباب كثر، أهمها الاستبداد الناتج عن المغول والتتار، والحروب التي يتمت الأطفال ورملت النساء، وروعت الشعب بالمآسي، وتركت في كلِّ بيت مأتم، هذه الظروف جعلت سمة من الحزن تظهر في كل بيت شعر فراتي».
إلا أن اتسام الشعر بالسوداوية والحزن في بوادٍ أخر، ينفي صحة هذا الرأي، ويؤكد أن السبب الحقيقي لهذه السمة الحزينة هو الطبيعة بأسرها، والبادية ذاتها حيث قسوة الحياة وصعوبة العيش، والجفاف في بعض السنين، والفيضانات في بعض الأعوام.
ينقل لنا البدوي، أو الريفي حرمانه، وشعوره بالحاجة العاطفية للألفة وحتى الحاجة المادية، من خلال أشعاره التي تمتلك سمة واضحة من الحزن.
يقول أحد شعراء القصيد (الشعر النبطي) شاكياً غدر الزمان:
أويل قلــــــــب ٍ مسَّنو لواكيع/ من زغر سني الليالي غدرني (1)
يا دهر يا خوان مالك روابيع/ أدعيتني مانـــــام ليلي أعني (2)
وتتأجج هذه السمة في "العتابا" لتبدو واضحة:
لف قندوس جرحي وما شفاني/ ولا نفع بحالي ولا شفاني(3)
يـوم وداع خلـي ما شـوف آنـي/ السواد من البياض من العمى(4)
أما في "الموليّا" ذات المواضيع المتنوعة، فإن هذه السمة تخبو، إلا أنها لا تختفي تماماً:
العيـن جفت دمـع مذروفهـا من الـدم/ كدَّرني جور الهوى من صباي زاد الهم
احتسيت مر العمر جرعات دفلى وسم/ سافن جناب الدليل وعن مساميَّــــــــــه
أما "النايل"، فيرتدي ثوب السواد بشكل دائم، ومن ذلك قيل: «إنه أخذ تسمية النيل أي السواد». ويلاحظ فيه كلمات الغراب والبوم والدمع، التي يجد فيها الشاعر سبيلاً للحزن.
تنفط بدار الغوالي ....يا غراب لاجزاك/ ذكرتني بالولف سليتهم لولاك
وتضفي هذه الملامح مسحة جمالية لذلك الشعر، الذي نما وترعرع بين أفئدة صادقة وفية، ترجمت عواطفها بكلمات عشقتها الأذهان، وتمتعت بمعانيها الرائعة لبساطتها وروعتها، ولا زالت تزداد وتزداد، إلا أن تلك الملامح الحزينة بدأت تختفي، وذلك لما توصل إليه ابن هذه المدينة بباديتها وريفها من التمدن والتحضر الذي يعيشه الآن.
شرح المعاني:
(1) لواكيع: أدوات الكي بالنار، وعلى الغالب تكون مكونة من قطع قماشية ملفوفة بعناية يحرق رأسها.
(2) روابيع: أصدقاء، أدعيتني: جعلتني، أعني: أعنُ.
(3) قندوس: طبيب، لا شفاني: لم يشفني.
(4) آشوف: أرى
المراجع:
المغمورون: رواية للدكتور "عبد السلام العجيلي".
المحيط في الأدب: "جبران مسعود".