على إثر معركة "المسيفرة" في 17 أيلول 1925 والتي كانت حادثاً له قيمته التاريخية وله شأنه الكبير في الثورة، توجه البطلان الباسلان "منير الريس"، و"مظهر السباعي" إلى جبل الدروز من مدينة أبي الفداء عن طريق شرقي الأردن يصطحبان صورة اتفاق لإضرام نار الثورة، كان قد وقعه كبار "حماة" مآله أن تقع مناوشات تمهيدية في أول تشرين الأول في "الغوطة"، وأن تزحف على القريتين قوة من الجبل لا تقل عن مئة فارس لتكون تحت لواء المجاهد والقائد السوري الكبير "فوزي القاوقجي" وتنضم إلى جنوده البواسل فيكونون جميعاً تحت إمرته، وتضمن الاتفاق أن تبدأ الثورة في "حماة" في الثاني من تشرين الأول وألا يعقد الجبل صلحاً منفرداً بل إن كان الصلح فبالاشتراك باسم الإقليم السوري.
ووقع "السلطان" يومها الاتفاق باسم "بني معروف" وعاد "الريس" و"السباعي" إلى الغوطة حيث أعطوا الاتفاق إلى الدكتور "خالد الخطيب" كي يقدمه إلى مجاهدي "حماة".
..فنجحت ثورة "حماة" بهذا التوسع نجاحاً باهراً وضمنت عدداً من الفوائد
وبالحقيقة كان لهذا الاتفاق شأنه الخطير وتأثيره الكبير على الفرنسيين إذ إن ثورة "حماة" كانت العامل الأكبر في سحب "غاملان" جيشه من "السويداء" من بعد أن احتلها، ومن بعد أن كان مزمعاً على إخضاع الجبل.. كل الجبل، فلم يستطع بسبب أبطال "حماة" وثورتهم الذين اختاروا "فوزي القاوقجي" قائداً لهم.
ويقول "القاوقجي" في ذلك: «أما ثقة الشعب فقد ضمنت بما بذلته لحماية المصالح والحقوق والدماء التي كانت دوماً هدفاً للهدر ثم تقوت بواسطة التشكيلات التي بدأت بها عن طريق رجال الدين والتي بفضلها نفذت إلى الشعب وأتممت تشكيلات حزب الله الذي ربط به قسم عظيم من سواد الشعب في "حماة" وخارجها بعهود دينية متينة».
وعن تفاصيل دخوله مدينة "حماة" يقول "القاوقجي": «دخلت "حماة" في الساعة العاشرة بعد الظهر واجتمعت مع الرؤساء وطلبت أن يحضروا برجالهم إلى المحلات التي قررتها لهم، ثم أرسلت مفارز صغيرة لقطع المخابرات التلفونية داخل "حماة"، وما بين "حماة" وخارجها ومفارز صغيرة لمحاصرة دور الضباط الفرنسيين لمنع اتصالهم بقطعاتهم والقبض عليهم كي يكونوا رهاناً عندنا نفتدي بهم عند الحاجة بعض رجالنا المهمين، وكان الموعد للانتهاء من الاجتماع الساعة /12/ حيث تباشر هذه المفارز عملها؛ اتصلت المفارز بالجيش واستعد الجيش بهذه الليلة وحضّر رشاشاته وكان ينتظر الأوامر».
ويضيف "القاوقجي" في مكان آخر من مذكراته: «كان لا بد من الوصول إلى الهدف المطلوب، والغاية المثلى التي أطمح إليها هي إرغام الفرنسيين وإجبارهم على سحب قواهم من الجبل وتوجيهها إلى الشمال لكي يتسع الهجوم أمام أبطال الجبل، ولكي يتنفسوا الصعداء أنفاس حرية العمل وكبح جماح قوى "غاملان" ونقل ثقل جيوشه وتخفيف عبء وطأتها لذلك يجب أن تأخذ ثورة "حماة" مفعولاً كبيراً وتفعل دوراً خطيراً له شأنه وتكون حركة خطيرة ومهابة ومخيفة وعامة..»،
«..فنجحت ثورة "حماة" بهذا التوسع نجاحاً باهراً وضمنت عدداً من الفوائد».
ولد الضابط السوري "فوزي القاوقجي" عام /1890/ في مدينة "طرابلس"، حيث كانت المنطقة كلها تعرف بسورية، قبل دسّ سمِّ اتفاقية "سايكس بيكو" التي قسمت سورية الطبيعية إلى عدد من الدول، والتي كان "القاوقجي" فيما بعد من أشد الأشخاص شراسة في رفضها.
درس "القاوقجي" في المدرسة الحربية في "الأستانة" في "اسطنبول"، إبان الاحتلال العثماني، وفي عام /1912/ نال رتبة ضابط في سلاح الخيالة العثماني.
بدأ "القاوقجي" حياته النضالية في مدينة "الموصل" في العراق، حيث لجأت القبائل إليه لرد حقها حتى ذاع صيته في "الموصل"، حيث حارب ضد الإنكليز أثناء الحرب العالمية الأولى الذين اجتاحوا "العراق" عام /1914/، حيث نزلوا في "البصرة" واحتلوها في 22 تشرين الثاني ثم تقدموا نحو "القرنة" حيث جرح "فوزي القاوقجي" جرحه الأول في منطقة "الروضة" شمال "القرنة" في المعركة الضخمة التي جرت هناك، أما عن الجرح الثاني والثالث فسنشير لهما لاحقاً.
نظر بشك وريبة إلى الثورة العربية الكبرى التي أعلنها الشريف "حسين" بمعاونة الإنكليز في الحجاز، يقول في مذكراته: «أما الثورة التي طربنا لخبر نشوبها فلم تكن أخبارها تشجعني على الانضمام إليها لعدة أسباب: فقد علمت مع الأسف أن الأسطول الإنكليزي هو الذي أسقط ثغر "جدة" بقنابله، كما أن قلعة "الطائف" قد سقطت أيضاً بمدافع إنكليزية أرسلت إلى الأمير "عبد الله" وأن جنوداً إنكليزية وفرنسية قد أنزلت في ثغور "جدة" و"رابغ" و"ينبع" و"الوجه" وغيرها من سواحل "الحجاز"، وأن الأسطول الإنكليزي هو الذي يحمي هذه السواحل، كما أن ثغر "بورسودان" والذي كان تحت سيطرة الإنكليز في ذلك الوقت كان القاعدة التي تمد الجيش الشريفي بالذخائر والأسلحة، وأن هناك بعض الضباط من الإنكليز والفرنسيين يقودون بعض الفصائل الفنية».
ساعد "القاوقجي" الملك "عبد العزيز آل سعود" في تشكيل الجيش السعودي عام /1928/ حيث كان الملك "عبد العزيز" محط أنظار الراغبين في وحدة العرب في ذلك الوقت بسبب جهده التوحيدي الهائل في جزيرة العرب. ثم انضم إلى الملك "فيصل" في العراق في عام /1932/، حيث أصبح معلماً للفروسية وأستاذاً للطبوغرافيا في الكلية العسكرية في بغداد، وقام هناك بتشكيل قوات متطوعة عربية توجه بها إلى فلسطين عام /1936/، حيث شارك في ثورة ذلك العام، وعاد إلى العراق ليساهم في ثورة "رشيد عالي الكيلاني" عام /1941/.
إلا أن النقطة البارزة في حياة "القاوقجي" كانت توليه قيادة جيش الإنقاذ في فلسطين عام /1947/.
أبرز المعارك التي قادها "القاوقجي" ضد اليهود كانت معركة "المالكية" مع القوات السورية واللبنانية في حزيران /1948/.
قاد حملة من المتطوعين العرب من بلاد الشام والعراق ومن بعض كوادر الجيش العراقي وعبر بها شرقي الأردن لنجدة ثورة فلسطين الكبرى. وحقّق انتصارات جعلت الإنكليز يعملون إلى لعزل قائد الجيش الأول "ويغل" وإرسال بديل عنه الجنرال "ديل" مع تعزيزات ضخمة لكن هذا الأخير تعرض للهزيمة مما اضطره لطلب الهدنة. وهنا وقع الزعماء العرب في الفخ البريطاني فقد وافقوا على هدنة غير مشروطة دون استشارة العسكريين وقادة الثورة، فاضطر "فوزي" للانسحاب من جديد إلى العراق فعاد البريطانيون لاحتلال مناطق الثوار وأحكموا سيطرتهم على فلسطين من جديد، مما مهد لنكبة عام /1948/.
وللمناضل "القاوقجي" آراء عميقة عن شرقي الأردن حيث يقول عن هذه المنطقة: «هي المنطقة التي تجاور كافة الأقطار العربية فهي كهمزة صلة يربط بينهم جميعاً، وبضياعها تفككت الأجزاء العربية عن بعضها البعض، ويصعب تأمين وحدة بينها سياسة كانت أو اقتصادية، أو عسكرية».
لكن هذا المشروع، الاستيلاء على شرق الأردن، فشل ولم يكتب له أن يرى النور فقرر "القاوقجي" القيام بحملة على سورية ضد الفرنسيين وفي بادية "تدمر" تهاجمه طائرة بريطانية فيجرح للمرة الثانية ويصاب إصابة بليغة وينقله "الألمان" إلى "برلين" للعلاج ويبقى هناك حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث يعود إلى سورية ليبدأ رحلة جديدة مع جيش الإنقاذ..
فيما بعد لم يك الضابط "فوزي القاوقجي" من المرحب بهم في بغداد ولاسيما بعد تدخل الأتراك بسبب موقفه من قضية "اسكندرون"، الذي كانت تركيا تحاول فصله عن سورية، وهذا أمر رآه "فوزي" مسألة حياة وموت لسورية التي لا يمكن لها أن تعيش بدون "الإسكندرون" فقد رأى أن محور /اسكندرون – البصرة/ هو أهم من محور قناة السويس لأنه طريق بري أقصر يوصل إلى الهند، كما أن الجزيرة السورية وشمال العراق ستختنق بضياع الاسكندرون. إضافة للأتراك لم يكن الإنكليز مرتاحين لوجوده في بغداد، فكان أن نفي إلى "كركوك" وبقي تحت الإقامة الجبرية هناك حتى عاد إلى بغداد بعد إزاحة "بكر صدقي" واستلام "جميل المدفعي" وزارة الدفاع. وطوال تلك الفترة لم ينقطع عن التفكير بفلسطين.
أما عن جرح "القاوقجي" الثالث ولعله الأكثر ضرراً به فكان اتفاقيات هدنة /1949/ بين العرب والمغتصبين اليهود، حيث قدّم استقالته فوراً وعاش في "دمشق" ثم في "بيروت" بقية حياته إلى وفاته عام /1977/.
المراجع:
- مذكرات "فوزي القاوقجي"