«الحصاد قطّعة من جهنّم، وعلى "الحاصود" أن يستيقظ قبل أن يصيح الديك، لأنّ حرارة الشمس لا تطاق»، والكلام للحاج "حمدو الدغيم" من قرية "جرجناز". "الحاصود" هو فرد من مجموعة تسمّى بـ"الشَدّة"، والمسؤول عنها يسمّى بـ"الجاويش"، ومع كلّ "شَدّة" يوجد ما يعرف بـ"الطارود"، وهو الأسرع بالوصول إلى نهاية الزرع، وتتباهى المجموعات وملاّك الأراضي بـ"طواريدها"، وكانت لهذه المسابقات طقوس.

«فكلّ مجموعة تروّج ضمناً لـ"الطارود" المرافق لها، وهي شكل من أشكال الفروسية تقام لإظهار مهارات الشباب أمام الفتيات، وأحياناً هناك اتفاق ضمني مبّطن للترويج لأحد "الطواريد"». والكلام للروائي "عبد العزيز الموسى".

فكلّ مجموعة تروّج ضمناً لـ"الطارود" المرافق لها، وهي شكل من أشكال الفروسية تقام لإظهار مهارات الشباب أمام الفتيات، وأحياناً هناك اتفاق ضمني مبّطن للترويج لأحد "الطواريد"

هذه الطقوس لم يعد لها وجود حالياً، ففي لقاء لموقع eIdleb مع الحاج "سرحان" من قرية "معرشمشة" قال: «هناك العديد من "الطواريد" الذين ذاع صيتهم على مستوى منطقة "المعرة"، حتى أن بعضهم صار مثلاً يضرب به للدلالة على السرعة في الحصاد كـ"دناور" المشهور جداً، حتى أصبح مثالاً، فيقال: «أحصد من "دناور"»، وفي قرية "معرشمشة" كان يعرف حاج "رزوق الشحود" بـ"الطارود"، ويتقاضى أجر عاملين عن كلّ يوم حصاد لسرعته، ويقال أنهم ربطوا به فرسا،ً فلم تستطع أن تأكل شيئاً لسرعته».

وفي قرية "حزارين" يشتهر "محمد الفيّاض" بأنّه أشهر "طواريد" القرية، أمّا في قرية "دير الشرقي" فيعرف "علي القلو"، وأخوه "عبد العزيز القلو". وحين تتجاور مجموعتان من "الحواصيد" كانت كلّ مجموعة تشجع "طارودها" للوصول إلى رأس الزرع قبل المجموعة الأخرى، فقيل الكثير من العتابا و(العدّويات) منها: (بيع أمانك بيع.. يا ولد يا مريبيع) يقولها "الطواريد" لبعضهم للتحدي. ومع اشتداد حرارة الشمس عند الظهيرة يبدأ التعب والإرهاق، فتظهر الأمثلة المعبّرة عن الحصاد فيقال: «الحصاد قطعة من جهنم».

ويرفع أحدهم عقيرته للدلالة على أنه جاء نتيجة العوز والحاجة، ولولا ذلك لمضى تاركاً هذا العذاب وهذا الحرّ بقوله: «حاصود ماني حاصود... هادا الدهر وازاني...يا معلّم دونك زرعك... يلعن بيّ الأمّاني)، فهنا يتذمر الحاصد بأنّه لم يكن يوماً من الحواصيد، لكنّ الفقر دفعه، فيشتم "الأمّان" وهو الزوج من خطوط الحصاد، ويمضي غاضباً يندب حظّه، وفي الطرف الآخر يقف حاصد عاشق، ليخاطب دارس المحصول ويشرح له قلبه، وكأن في تذكّر المحبوب اتقاء لأشعّة الشمس الحارقة، أو ليزيد من حيويته فوق "الحيلان": (يا سواق الحيلاني... ديرو على البراني.. سولف نودر سليني.. وأنا الهوى راماني)، هو عاشق رماه الهوى لكنه رضي بالمقسوم وعرف أن الفرقة والاجتماع من عند الله، فيتابع قائلاً: (يا معوّد بالله تبسّم.. الله بالفرقة قسّم...وأنا بنصيبي رضياني). وبعد أن يتم دراسة المحصول بآلة "الحيلان" لابد من إعادة قشر الحبوب بواسطة الدق، لفصل القشر عن المحصول فيغني (جرن وحنطة وتشويشي..والدّقاقة أم عليشي)، (والقشّار على الجلاّس..قاعد ومعصّب هالراس)، (دقّة دقّة عالماشي). أمّا طعام "الحواصيد" فقد قال الحاج "سرحان": «شوربة العدس مع الخبز المقمّر، والمجدّرة مع اللبن، وكانت الشاي نادرة، حيث تقدّم النمورة أو الراحة».

أخيراً موسم الحصاد تجديد لحيوية الجيوب، وتجديد لمرح النفوس، وفيه يعلو الغناء وتعلو الأهازيج، والبعض يظلّ فيه قانطاً متذمراً، لعلمه أنّ ما سيجنيه سيدفع للدائنين.

إنّ موسم الحصاد متجدد كلّ عام، لكنّ الأغاني، ودبكات التحدي، وحكايات "الطواريد"، فقط هي التي رحلت إلى غير رجعة.

قبل ظهور الآلات الحديثة