قامت الثقافات الأولى على القراءة والكتابة، بعد أن تأسست المدن، وعندما استقر الإنسان المتحضر داخل المدينة المحصنة، التي تواجدت فيها كل متطلباته واحتياجاته، بدأ بعد أن شعر بالطمأنينة والأمان بتدوين يوميات حياته، ثم ما لبث يدون الأساطير والشرائع، ومع مرور الوقت أصبح هذا التدوين علماً قائماً بذاته، له مقومات امتلكها بعض النابغين الذين امتازوا بالخط الجميل، وتحولت الكتابة لصنعة حملها المهرة الذين باتوا مقربين من مفاصل الحكم في الدولة.

وبعد سقوط "بغداد"، على يد المغول، قام هؤلاء بسلبها، ومما سلبوه كان بعض ما تميزت به هذه المدينة العظيمة، إذ قاموا بأخذ أشهر خطاطيها في ذلك الزمان إلى عاصمة ملكهم، والتي كانت "تبريز"، وكان الخطاط الذي أخذوه هو "ياقوت المستعصمي"، المتوفى سنة /1298/م.

عندما أحضر "هولاكو" معه إلى مدينة "مراغة"، الخطاط "ياقوت المستعصمي"، وصحب الأخير معه الخطاطين والنقاشين، والعاملين في النسخ والتجليد، وفي زمن حفيد "هولاكو" السلطان "غازان بن أرغون"، تغير أمر المغول، فقد أسلم غازان، وعن ذلك يتحدث الدكتور "حسين مؤنس" في كتابه "تاريخ أطلس الإسلام"، فيقول: (شجع "غازان" الإسلام والمسلمين، وعمل على تعويض ما أصابهم على أيدي المغول الأوائل، وبنى المساجد، وازدهرت المدارس الإسلامية في عاصمته "تبريز"، وكانت لغتهم الفارسية، ويكتبون بالعربية)، فازدهر الخط العربي الذي كان القرآن الكريم يكتب به، وبعد ذلك في عهد "تيمورلنك"، الذي فتح البلاد العربية، حمل معه إلى عاصمة ملكه "سمرقند" الخطاطين والنقاشين وأصحاب الحرف، وأسس داراً لكتابة المصحف الشريف، حيث كان سلطان الخطاطين آنذاك "سلطان علي مشهدي" المتوفى سنة /1505/م

موقع eRaqqa وللحديث عن هذه المرحلة من عمر الخط العربي، التقى بتاريخ (13/12/2008)، الأستاذ الباحث "محمد عبد الحميد الحمد"، الذي بدأ حديثه لنا بهذا الموضوع بالقول: «سقطت "بغداد" على يد المغول، وانتقلت عاصمتهم إلى مدينة "تبريز"، آخذين معهم إمام خطاطي "بغداد"، وأمين مكتبة "بيت الحكمة" الخطاط "ياقوت المستعصمي"، لتقديرهم العالي لجمالية الخط العربي، الذي بلغ عدد الخطوط تحت إشرافه حوالي مئة خط، وصار الخطاطون في مدرسة "تبريز"، يعملون تحت تأثير الفيلسوف الوزير "نصير الدين الطوسي"، الذي كان أميناً لمكتبة قلعة "ألموت" ـ وكان قد جلبه القائد المغولي "هولاكو" أثناء حملته ـ ويبحثون عن جماليات الخط حتى لو كان في ذلك مخالفةً لقواعده المرسومة له، وصاروا يتفلسفون مستخدمين مقولات "أرسطو" الفلسفية في العلل الأربعة، فالكاتب هو العلة الفاعلة، والقلم هو العلة الآلية، والخط هو العلة الصورية، والبلاغة هي العلة التمامية، وصار الخطاط فناناً، والخط فناً، وأصبحت الصورة الجميلة هدفاً للخطاط، الذي صار يبحث عن الشيء المبتكر، وإلى "ياقوت المستعصمي" مؤسس المدرسة المغولية في "تبريز"، ينسب الخط البديع، حيث شاع عنه هذا الخط في إيران، وصار يطلق عليه مصطلح "فيراموز"، التي تعني السهل».

من أعمال "سمرقند" مخطوطة معروضة في مكتبة "الكونغرس"

ويتابع "الحمد" حديثه لنا عن ازدهار الخط العربي في المدارس المغولية، فيقول: «عندما أحضر "هولاكو" معه إلى مدينة "مراغة"، الخطاط "ياقوت المستعصمي"، وصحب الأخير معه الخطاطين والنقاشين، والعاملين في النسخ والتجليد، وفي زمن حفيد "هولاكو" السلطان "غازان بن أرغون"، تغير أمر المغول، فقد أسلم غازان، وعن ذلك يتحدث الدكتور "حسين مؤنس" في كتابه "تاريخ أطلس الإسلام"، فيقول: (شجع "غازان" الإسلام والمسلمين، وعمل على تعويض ما أصابهم على أيدي المغول الأوائل، وبنى المساجد، وازدهرت المدارس الإسلامية في عاصمته "تبريز"، وكانت لغتهم الفارسية، ويكتبون بالعربية)، فازدهر الخط العربي الذي كان القرآن الكريم يكتب به، وبعد ذلك في عهد "تيمورلنك"، الذي فتح البلاد العربية، حمل معه إلى عاصمة ملكه "سمرقند" الخطاطين والنقاشين وأصحاب الحرف، وأسس داراً لكتابة المصحف الشريف، حيث كان سلطان الخطاطين آنذاك "سلطان علي مشهدي" المتوفى سنة /1505/م».

وعن اتساع رقعة انتشار الخط العربي في الدولة المغولية يكمل الباحث "الحمد" حديثه لنا بالقول: «في عهد السلطان "جلال الدين محمد أكبر" /1542 ـ 1605/، تم نقل العاصمة إلى مدينة "أجرا"، وكان مولعاً بالرسم والخط، ويحب الموسيقا ويقول الشعر بالفارسية، بالإضافة لإجادته العربية والهندية، وكان شديد التسامح مع المسلمين، فازدهرت صناعة الخط العربي، حيث كان هناك ورشتان في مدرسة "أجرا"، فالورشة الأولى هي ورشة الخطاطين، الذين كانوا يجيدون فن تحسين النصوص الكتابية بالأشكال الهندسية، والنباتية، بالألوان الذهبية والفضية، وتجلت إبداعاتهم بكتابة القرآن الكريم، وكان السلطان "أكبر" مولعاً بالخط "النستعليق"، الذي هو مزيج جمالي لخطي النسخ والتعليق، الذي ابتكر في مدرسة "سمرقند"، ولكنَّ السلطان كان يرى أنَّ هذا الخط ظهر في مدرسة "تبريز" على يد الخطاط "ياقوت المستعصمي"، وكان أكثر تعلقه بخط التعليق المشتق من خطي الرقعة والتوقيع، ونتيجة لاهتمام السلطان بهذه الخط فقد تطور على يد الخواجة "تاج سليمان"، الذي أدخل إليه تحسينات كثيرة، ولشدة اهتمامه بالخط العربي أعدَّ له المسابقات، حيث كان الخطاطون يتبارون في تطويره وأشهر من برع في خط "النستعليق"، الخطاط "محمد حسين كشميري" المتوفى سنة /1617/م، وأطلق عليه السلطان لقب (رُزين خط)، أي صاحب القلم الذهبي، أما الورشة الثانية في "أجرا" فكانت ورشة الرسم والنقش، التي حوربت بدايةً من قبل الغيورين على الدين، ولكن السلطان "أكبر" دعمها ورأى فيها توحيداً لله بطريقة أخرى تظهر عجز هذا الفنان أو ذاك عن بث الروح فيما يرسم، وكانت أعمال النقاشين والرسامين تعرض على هذا السلطان كل أسبوع حيث يكافئ المبرزين منهم، وبلغت مدرسة "أجرا" مكانةً عاليةً من الإتقان، وكانت المنمنمات التي يبدعونها يشتريها تجار البرتغال ويصدرونها إلى أوروبا، ويجلبون بدلاً منها صوراً من إيطاليا واسبانيا ليطلع عليها نقاشي مدرسة "أجرا"، وما زالت أعمال هؤلاء النقاشون العظماء مدونةً على صفحات الكتب مثل كتاب "ظفرنامة"، وفيه سيرة "تيمورلنك"، وبعض القصص الشعبية كقصة "حمزة البهلوان"، وديوان "سعد الشيرازي"».

الخط هنسة روحانية

ويذكر أن فن الخط العربي والنقش وصناعة المنمنمات، بعد أن بلغ أوج ازدهاره في المدارس المغولية، تراجع وانحسر بعد أن اعتلى العرش "محي الدين أورانجريب" /1658 ـ 1707/، حيث قام بإغلاق جميع المدارس وطرد كل العاملين فيها، فزالت تلك المدارس التي مثلت في يوم ما العصر الذهبي للفن الإسلامي في الرسم والزخرفة والخط في كل العصور الإسلامية.

الباحث "محمد عبد الحميد الحمد"