في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، عثر الآثاريون على أرضيات من الفسيفساء في عدة مواقع بمنطقة "الرقة" مثل: موقع "حلاوة" الأثري على الضفة الشرقية لبحيرة "الأسد"، حيث عثر المنقبون على أرضية من الفسيفساء، تمثل رسوماً لحيوانات أليفة ومتوحشة، فهناك الغزال، والثور، والأسد الفراتي، ورسوم لأشجار مثمرة، وجميع هذه الرسوم منفذة من قطع الأحجار الملوّنة. كما عثر المنقبون على أرضيات فسيفسائية أخرى في موقع "تل البيعة" بالقرب من "الرقة"، وعثروا أيضاً على لوحات مثيلة في كل من: "تل الشيخ حسن" و"عين العروس" على "البليخ". وكان لا بد من نزع هذه الأرضيات ومعالجتها معالجة فنية وعلى أسس علمية، لعرضها في متاحف القطر أو في متحف "الرقة" الوطني.
وطالما نحن بصدد الكلام عن معالجة الفسيفساء، فإنه من المؤسف حقاً القول: إنه لا توجد هناك طريقة مثالية لمعالجة وصيانة الفسيفساء، ويؤكد العلماء والمختصون، أن التكلفة المادية القليلة لصيانة الفسيفساء هي أقرب طريقة مثالية. وقبل الحديث عن طرق المعالجة لا بد لنا من طرح السؤال التالي: هل يمكننا التحدث عن الفسيفساء كشيء متجانس؟ في الحقيقة لا، لأنّ أعمال الفسيفساء تتضمن خصائص وظيفية وفنية، ولذلك فإنّ الكثير من الأعمال الفسيفسائية لا تملك قيمة زخرفية فنية عالية، بل هي مجرد تلبيس لإرضاء رغبة شعبية معينة، وبعضها الآخر اعتبرت كأعمال فنية ذات مستوى راقٍ، أي أنه هناك فنان، وهناك صانع، وشتان ما بين الفنان والصانع، ولذلك لابد من الأخذ بعين الاعتبار القيمة الفنية والتاريخية للفسيفساء عند معالجتها. وقبل سنوات من الآن توجهت إلى السيد "محمد فارس" مدير المعمل الفني في المديرية العامة للآثار والمتاحف بـ"دمشق" بالسؤال التالي: كيف يبدأ العامل الفني بصيانة الفسيفساء عملياً؟ كانت إجابته موسعة، وبالمقارنة بما لدي من معلومات بهذا الشأن أستطيع أن ألخص الجميع بما يلي: في زمننا الحالي تتم عملية صيانة المخلفات الفسيفسائية بطريقة واحدة أو بطريقتين:
ـ الطريقة الأولى تتم في الموقع الذي اكتشفت فيه أرضية الفسيفساء، لكنها طريقة مكلفة وشائكة، وتؤدي إلى مشكلات جمة، ولا يمكن ترك بعض الأرضيات مكشوفة في مكانها على الأقل في المواقع غير المحمية، لكن يمكن تركها عندما تتوفر الحماية وبعض الشروط الدنيا من الصيانة، كما ويمكن تركها في مكانها وهي مغطاة بالأتربة فوق مادة لا تؤثر عليها مع مرور الزمن. إنّ تقييم المكتشفات الفسيفسائية الأكثر علمية للباحث والزائر هي القيام بترميمها وصيانتها وعرضها في مكانها، لكنها طريقة صعبة ومكلفة مادياً. كما أنّ هذه الطريقة تعتمد على جودة هذه الفسيفساء، بحيث أنّ بعضها يمكن صيانتها بدقة في أبنية ملائمة، لكن بعضها يتطلب مكاناً آخر ومختلفاً لعرضها، وفي كلتا الحالتين، فإنّ إنجاز مثل هذا العمل يتطلب استخدام مواد ملائمة مثل الجص والرمل أو الاسمنت والبلاستيك.
أما الطريقة الثانية، فهي نقل المادة الفسيفسائية المكتشفة من مكانها إلى مكان جديد، وهذه الطريقة تحيق بها مجموعة من الصعوبات، إذ إنه قبل النقل لا بد من التفكير في كيفية التقوية والصيانة، وقبل كل شيء التفكير بعملية النزع والاستخراج، هذا من جانب، ومن جانب آخر لا بد من دراسة طبيعة المكان الجديد الذي ستنقل إليه أرضية الفسيفساء، وهذا المكان يجب أن تتوفر فيه مجموعة من الشروط الملائمة مثل، نظافة المكان، والإضاءة وحجم المدخل، ويفضل في مثل هذه الحالة عرض الفسيفساء في المتاحف، لأنّ المتحف هو المكان المناسب للعرض والحفظ. ومع مرور الزمن، فإنّ الفسيفساء تتعرض للتلف لأسباب عدة، منها بفعل المياه والرطوبة والأملاح الناتجة عن ارتفاع منسوب المياه الجوفية، لذلك نجد أنّ الفنيين في المخابر يتدخلون بسرعة لصيانة الفسيفساء، سواءً في الموقع أو في المكان الجديد لعرضها.. لذلك نراهم يلجؤون أولاً إلى: نزع ما هو تالف، ومن ثم العمل على صقلها وزيادة الكثافة فيها، ثانياً: تقوية أرضيتها وجعلها صماء غير نفوذة، ثالثاً: إعادتها إلى مكانها الأصلي، والعمل على تقوية مكعبات الفسيفساء ومعالجتها وفي هذه الحالة يقوم المختصون بدراسة نوعية القطع وتحليلها، لمعرفة نوعية الصخور المكونة منها، لأنّ بعضها يكون من صخور رسوبية، وبعضها الآخر من صخور متحولة أو من صخور بركانية. رابعاً: وبعد مرور فترة طويلة من الزمن تقدر بعام كامل، يقوم الفنيون بتشريبها بمواد ملائمة لتقويتها وحمايتها من العوامل الخارجية.
الترميم: قبل البدء بترميم أرضية الفسيفساء، يقوم فنيو المخبر المختص بأعمال الترميم بمعرفة الوسط الذي وجدت فيه، والحالة الجيولوجية لها. ثم يقومون بتجهيز الأرضية، وهي عبارة عن مادة قد تكون من الاسمنت توضع فوق الأرض الطبيعية قاسية ومسامية، وتتراوح سماكتها من /3- 25/ سم. قبل تجهيز الأرضية يقوم الفنيون، بتجهيز الملاط أسفل الأرضية من أجل تسوية الأرض الطبيعية، وتكون ثخانة هذا الملاط ما بين /1ـ 4/ سم. هذا أولاً، وثانياً يقوم الفنيون بما يلي:
ـ نزع أرضية الفسيفساء، في حالة لم يتمكن المختصون من صيانة الفسيفساء في مكانها الذي وجدت فيه، يلجؤون إلى نزعها من مكانها، وقبل نزعها من مكانها يجب: دراسة حالة حفظها، والشروط البيئية المحيطة بها، والقيام بتنظيف الأرضية تنظيفاً جيداً بواسطة الفرشاة والمشرط، وإزالة بقايا الأتربة، وغسل سطح الأرضية بالماء، ويجب عدم استخدام الحمض. وفي حالات نادرة يستعمل فنيو المخبر بعض المواد الكيميائية في عملية التنظيف مثل: حمض الهيدروكلوريك، وحمض النتريك، ايبوكلويتو صوديكو، وماء الأكسجين.
ـ العمل على إزالة الأملاح، وإلقاء الحموضة P.H وتقوية المكعبات الفسيفسائية في حالة تفككها، وفي هذه الحالة يفضل عدم استعمال واستخدام (سيليكات الأثيل) في تثبيت المكعبات الحجرية.
ـ تقوية سرير المكعبات وإكمال النقص الحاصل فيها، ويرى الفنيون أنّ مادة الجص الناعم المخلوط بالرمل مادة مثالية لمنع تفكك المكعبات.
ـ توثيق العمل فوتوغرافياً، وبالصور التفصيلية بمقياس متري. وبالمخططات التفصيلية.
ـ تغطية الفسيفساء بالقماش النظيف على دورين، الأول القماش ذو الحبكة البسيطة من القطن فوق كامل السطح، كي تبقى ملساء، ودون إحداث تجاعيد أو فقاعات هوائية، والثاني، وضع طبقة من القماش سميكة (ذات حبكة مثمنة الزوايا والأضلاع /80%/ قطن و/20%/ اكريليك)، حيث تكتسب مرونة عالية، ومقاومة كبيرة بالنسبة للتوترات. وفي العادة يستعمل فنيو المخابر مادة (أستينات البوليبينيلو) وهو مزود بمبيد للفطريات التي تلعب دوراً كبيراً في تشويهات بنية الأرضية.
طريقة نزع الفسيفساء: عادة يلجأ فنيو المخبر إلى نزع الفسيفساء بطريقة التقطيع، أو نزعها كتلة واحدة، ففي الحالة الأولى:
ـ تُعلم الأجزاء التي يُراد تقطيعها في القماش وترقم، وشكلها يكون متوافقاً مع الرسوم والزخارف التي تبدو على الفسيفساء، وفي هذه الحالة يجب أن يسير خط القطْع بين صفين من المكعبات المختلفة الألوان، ويجب ألا تتجاوز مساحة الصورة المقطوعة /60/سم2. أما إذا كانت المساحة أكبر من ذلك كأن يكون مثلاً /150/سم2، فإنه يتوجب على المختصين عدم قطعها.
ـ لفك أرضية الفسيفساء، يقوم الفنيون بضرب سطحها بواسطة مهدة صغيرة مصنوعة من مادة المطاط، ونتيجة للهز الحاصل ستنفك المكعبات عن الملاط، وبعد ذلك يقوم الفنيون بنزع القماش بواسطة سكين ولكن بحذر شديد، وفي المسار الواقع ما بين المكعبات الحجرية. وما أن تتفكك المكعبات الفسيفسائية يقوم الفنيون بوضعها في مكانها الأصلي، في قطعة القماش بواسطة لاصق انعكاسي مخصص لهذه الغاية.
أما نزع لوحة أو أرضية الفسيفساء كتلة واحدة، فتتم بطرق ثلاث مختلفة هي:
ـ النزع بواسطة أسطوانة، على شكل قضبان حديدية وعوارض خشبية.
ـ النزع بواسطة لوح قاسي وصلب تستند عليه قطعة الفسيفساء المراد نزعها.
ـ والطريقة الثالثة، هي طريقة الرفع على بكرات أو رافعة، وبعد أن يتم نزعها توضع مقلوبة، فوق لوح خشبي بقصد التحكم بها.. بالطبع هناك مجموعة طيبة من الأرضيات الفسيفسائية مخزنة ومعبأة في متحف "الرقة"، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل هي معبأة ومخزنة وفق الشروط العلمية الخاصة بتعبئة الفسيفساء.