«قبل سبعة آلاف عام، وفي شمال سورية، حيث كان الإنسان يزرع الحبوب، وينتظر ماء السماء، لم تكن لديه القرطاسية ولا الأوراق، كانت جدران الكهوف مجاله للتعبير عن فنونه، ثم جاءت زخرفة سطح الأواني الفخارية، فقد قام بالرسم على سطح الآنية الخزفية أشكالاً هندسية، أو أشكالاً مستمدة من بيئته، فكان شكل الثور (البوكرانيا) من مواضيعه المحببة، وكانت طيور الماء من عناصر فنه، وقد تميز خزفه بتقنية خاصة وزخارف خاصة، عُرفت باسم ثقافة "حلف"، وخزف "حلف". وكان الفنان "رياض الطه" قريباً من هذه المواقع يلتقط الكِسر، ويتفحصها مثلما فعل والده "طه الطه"، وكانت مادة هذه الفخاريات، الوحي الذي استمد منه لوحاته، ليشير إلى منابع الفن الأصيلة، التي سبقت الكثير من الحضارات، وليشكل حافزاً لدى بقية الفنانين والمصممين، وخاصة مصممي الأقمشة والمنسوجات والمفروشات، علَّهم يعودون إلى تراثهم المحلي، ويستمدون منه بعض العناصر التي تمثل البساطة والراحة والجمال، في اللون والتعبير».
هذا ما كتبه الدكتور "حميدو حماده" مدرس مادة الآثار في جامعة "حلب"ـ قسم الآثار، بعد حضوره لمعرض الفن التشكيلي الذي ضمَّ لوحات للفنان "رياض الطه"، وبتاريخ (17/12/2008) التقى موقع eRaqqa الفنان "رياض الطه"، حيث تم سؤاله عن بداياته مع هذا النوع من الفن، فأجاب يقوله: «كانت البداية الفعلية، عندما شاركت في أحد المعارض السنوية، التي يقيمها متحف "طه الطه"، حيث عرضت لوحة واحدة صغيرة الحجم، قياساً للًّوحات المعروضة لفنانين من عدة دول عربية وأجنبية، وكانت تمثل شجرة الحياة، وقد حضر ذلك المعرض رئيس البعثة الأثرية الإنكليزية "توماس هولند"، مع أعضاء البعثة العاملين في القصور الإسلامية العباسية في مدينة "الرقة"، ولم يثرْ انتباه ذلك العالم سوى لوحتي الصغيرة، وبدأ يشرح لطلابه ولفترة طويلة، عن شجرة الحياة وأثرها في الفن القديم، وبعد ذلك أثارت هذه اللوحة انتباه عالم الآثار السوري الدكتور "حميدو حماده"، وزوجته عالمة الآثار اليابانية "يايوئي ياما زاكي"، حيث راح يشجعني كثيراً على مواصلة عملي الفني، متجاوزاً كل العقبات في هذا المجال، فأنا لم أدرس الفن أكاديمياً، ورغم ذلك فقد قدمني الدكتور "حماده" إلى طلاب كلية الآثار في جامعة "حلب" كفنان متخصص بفنون عصور ما قبل التاريخ، وقدمت أول معرض فردي لي، في جامعة "حلب"، حيث افتتح المعرض السفير الياباني».
تأثيرات البيئة موجودة في كل محل، وفي كافة المجالات، ومن لا يستفيد من البيئة لا يمكنه العطاء والاستمرار، فالبيئة هي الأساس في كل تجربة إبداعية، ومنها ينطلق الفنان نحو العالمية
وعن ماهية الفن الفطري، يحدثنا "الطه": «إن الفن الفطري هو كل فن ينتج خارج حدود الخبرة المدرسية، والفن الفطري لا زمن له، فهو من الفطرة والبداهة، وفن الشعوب قبل وجود الأبجدية، وتشهد على ذلك الرسومات الموجودة في الكهوف، ولم يلقَ الفن الفطري اهتماماً كافياً من النقاد، مع أنه الفن الأكثر أصالةً، وهذا الفن يعبر عن أحداث تاريخية وأساطير كثيرة، ولم يلبث الرسامون الفطريون أن انتقلوا إلى مواضيع جديدة، تتناول الحياة الشعبية والمشاهد الطبيعية، تماشياً مع انتشار الفن التلقائي في العالم، فأطلق عليه في فرنسا الفن البدائي والفن الساذج، وقد انتشر هذا الفن في أوروبا وخاصة الدول الاشتراكية، ففي يوغسلافيا قام عدد من الفلاحين بممارسة هذا النوع من الرسم، أطلقوا عليه اسم "الفن المحلي"، وقد اهتمت السلطات الثقافية بهؤلاء الفنانين، ورعت المعارض الفنية التي ضمَّت أعمالهم البريئة، وحافظت عليها من أي تأثير مفتعل، تفرضه الأكاديميات والقواعد النظرية، والفن الفطري كما يقول الناقد الدكتور "عفيف بهنسي": «ممارسة إبداعية تلقائية حرة، لا تخضع لمقاييس وقواعد نظرية، ولا تتقيد بقواعد التشريح والنسب، ويميل هذا الفن للتعبير الهزلي والطفولي والعفوي، ولكنه يبقى مرتبطاً بالبيئة والعادات والتقاليد، وأهم المواضيع التي تناولها الفنان الفطري، كانت المواضيع التاريخية والدينية والأسطورية، وبرزت في هذا المجال أسماء مصورين عرب من أمثال: "حرب التيناوي" وابنه "أبو صبحي التيناوي"، وكان هذا الأخير يمارس هذا الفن ويجني من ورائه أموالاً كثيرة، وهو في محله الكائن في "باب الجابية" في مدينة "دمشق"، وهناك في ضواحي "الدار البيضاء" ولدت زعيمة الفن الفطري المغربي، "شعبية طلال"، والتي كانت أُميَّةً، ومارست هذا الفن وهي في الخامسة والعشرين من العمر، ومن لبنان "رفيق شرف" وغيرهم الكثير، أما في محافظة "الرقة" فإن الفنان المرحوم "ياسين الجدوع"، كان أحد رواد الفن الفطري، هؤلاء الفنانين جميعاً، كانوا يعيشون في بيئات شعبية متواضعة، ويمارسون مهناً يدوية لعدم تأهيلهم الدراسي».
ويتحدث الفنان "رياض الطه" عن تأثير متحف "طه الطه" على توجهه الفني، حيث يقول: «اعتمدت في أعمالي على مقتنيات متحف والدي، وخاصة الكسر الفخارية التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، وخاصة عصري "حلف" /5000/ ق.م، و"تل العبيد" /4000/ ق.م، واستفدت منها كثيراً، وحاولت أن أوظف ما أراه من رموز وزخارف على هذه الكسر الفخارية، وأن أضيف إليها من حيث الأسلوب والشكل، مما شكل رافداً كبيراً في تجربتي القصيرة الأمد، فالبيئة تلعب دوراً كبيراً في تجربة أي مبدع إن كان شاعراً أو مصوراً أو رساماً أو روائياً، وهذه اللُّقى الأثرية إحدى نتاجات البيئة الفراتية الموغلة في القدم، ومن خلال هذا الموروث البيئي كانت انطلاقتي الأولى، إلى ما هو أبعد من محيط الدائرة التي أعيش فيها».
وعن الفنانين الذين تأثر بهم "الطه" يقول: «في الحقيقة إنني لم أتأثر بتجربة أي فنان آخر، وكما ذكرت سابقاً أنا أنفرد في جانب لم يتناوله أحد غيري في العصر الحديث، تأثرت فقط بفنان عصور ما قبل التاريخ، وتحديداً عصري "حلف" و"العبيد"».
أما عن طموحاته المستقبلية، يحدثنا "الطه" بقوله: «طموحي أن أجعل من تجربتي في الفن الفطري، نواة متحف خاص في هذا المجال، وتكون أعمالي حلقة من مجموعة حلقات تضم أعمال لفنانين من عدة أقطار عربية وأوروبيَّة، توزع عبر مراحل تطور هذا الفن، والنواة لهذا المشروع موجودة حالياً لتنفيذه».
ولدى سؤاله عن الأثر الذي تركته البيئة، على أعماله الفنية، يقول "الطه": «تأثيرات البيئة موجودة في كل محل، وفي كافة المجالات، ومن لا يستفيد من البيئة لا يمكنه العطاء والاستمرار، فالبيئة هي الأساس في كل تجربة إبداعية، ومنها ينطلق الفنان نحو العالمية».