يعود تاريخ السكك الحديدية في سورية إلى فترة الحكم العثماني، ومنها الخط الحديدي الحجازي الذي اكتسب أهمية تاريخية في تحقيق التواصل الحضاري بين شعوب المنطقة، إضافة إلى دوره الاقتصادي والديني باعتباره ينطلق من "دمشق" إلى الأراضي المقدّسة في الحجاز:"المدينة المنوّرة"،.
في هذا العام/2008م/ احتفل الخط الحديدي الحجازي بمرور مائة عام على إطلاق أول قطار من مدينة "دمشق" وصولاً إلى "المدينة المنّورة" في 23/8/1908م، وبهذه المناسبة تم افتتاح متحف للخط الحديدي الحجازي في 18/8/2008م بمحطّة "القدم" جنوبي "دمشق"، و يعتبر -بحسب القائمين عليه- أكبر متحف للقاطرات في العالم ، ويتألف من: قسم الأدوات المتحركة والمحركة، ومتحف المقتنيات الأثرية للخط الحديدي الحجازي، وقسم الورشات الصناعية الملحقة بالخط، والتي مازالت مستثمرة بكامل طاقتها إلى الآن.
إن المعمل يشكل نموذجاً عن معمل "كيم نيتس" الألماني الذي عرف في حينه باعتماده أحدث تقنيات العصر العاملة على البخار، وقد أشرف على تجهيزه الخبراء العثمانيين والألمان، وربما يعكس هذا أهمية المعمل، وتفرده في الشرق الأوسط
موقع "eSyria" زار المتحف في جولة نظمتها الأمانة العامة لاحتفالية "دمشق" عاصمة الثقافة العربية /2008م/ ، وذلك في إطار تظاهرة "شامنا فرجة" التي أطلقتها منذ خمسة أشهر احتفالاً بأحياء المدينة التاريخية ومعالمها الأثرية، لنطل من خلال هذه الجولة على قصة تواصل حضاري، صاغتها جهود المهنيين السوريين بعرقهم ممزوجاً بالبخار والفولاذ.
قاد الجولة المهندس "فايز بريشة" مدير الآليات والجر في الخط الحديدي الحجازي.
بدأت جولتنا بالقسم الخارجي من المتحف، حيث انتصبت/18/ قاطرة بخارية «من أندر القاطرات في العالم» يعود تاريخ صنعها إلى الفترة الممتدة بين/1895 و1914م/ وهي ألمانية وسويسرية الصنع، وانتصبت إلى جوار بعضها البعض في الهواء الطلق، وتحكي كل قاطرة عن نفسها من خلال لوحة تعريفية وضعت بجانبها، ومما لحظناه في هذه اللوحات مثلاً: طراز القاطرة "يونغ، هارت مان.." ورقمها وتاريخ صنعها، والرمز"س د س" الذي يشير إلى عبارة «سكك دولة سورية»، وبحسب المهندس "بريشة":«أثبتت هذه القاطرات دورها في المرحلة الراهنة من خلال استمرارها جنباً إلى جنب مع القاطرات الحديثة، حيث تمتلك المؤسسة العامة للخط الحديدي الحجازي/31/ قاطرة بخارية نادرة، منها ثماني قاطرات مازالت تعمل إلى الوقت الحاضر، وتعمل المؤسسة على برنامجٍ طموح لاستثمار بقية القاطرات بالاعتماد على خبرة السائقين والمهنيين المتقاعدين، الذين اتبعوا العديد من الدورات الحديثة لهذا الغرض، ووضعوا خبراتهم في خدمة أبناء المؤسسة من الأجيال الجديدة..»
الجزء الثاني من المتحف داخلي، ويحتوي عدداً من المقتنيات الأثرية للمؤسسة العامة للخط الحديدي الحجازي، وتشمل مجموعة من الوثائق النادرة، والأدوات والتجهيزات التي تخص القاطرات والعربات والمعمل والمحطات، ولايزال بعضها بحالة جيدة وصالحاً للاستعمال، ومما شاهدناه في هذا المتحف: سندات ملكية أسهم لشركة ينابيع "الحمّة" المعدنية في "الجولان" المحتل، حيث كانت هذه الشركة وقفاً يستفيد الخط الحديدي الحجازي من عائداته، كما شاهدنا هواتف ووصلات هاتفية قديمة تعود إلى العام /1908م/، وآلة "مورس" كانت تستخدم للتواصل بين محطات السكة المختلفة عبر التلغراف، وقطع من السكة نقش على أحد جوانبها عبارة:«من خيرات مولانا السلطان عبد الحميد» السلطان العثماني الذي نشأ في عهده الخط الحديدي الحجازي، كما شاهدنا أيضاً مخططات هندسية للمحطات، ودفاتر ميكانيك للقاطرات، ونشرات تعليمات تزود السائق بكل المعلومات اللازمة عن محطات الخط من "دمشق" إلى "المدينة المنورة" وتفرعاته المختلفة في الأراضي الأردنية والفلسطينية المحتلة، بالإضافة إلى مجموعة مميزة من الأزرار النحاسية لملابس السائقين وطواقم العمل في القاطرات، والتي نقش عليها رمز الخط الحديدي الحجازي..
غادرنا الجزء الثاني من المتحف إلى عالمٍ أدهشنا بمفرداته، إنه معمل صيانة القاطرات البخارية وعربات الركاب، والذي يستحق عن جدارة لقب المتحف الحي.
تأسس هذا المعمل في بداية القرن الماضي، ومعظم أقسامه تعمل بكفاءة عالية ولاتزال بالخدمة حتى الآن، ويـتألف من قسم البخار والمكابس والمخارط والحدادة والسكب، وتعد تلك الأقسام مركزاً متكاملاً لتعمير وصيانة القاطرات البخارية والديزل، إضافة إلى الأقسام الأخرى التي عملت على تعمير عربتي السلطان"عبد الحميد الثاني" وعربات الحج.
وعن المتحف قال "بريشة": «إن المعمل يشكل نموذجاً عن معمل "كيم نيتس" الألماني الذي عرف في حينه باعتماده أحدث تقنيات العصر العاملة على البخار، وقد أشرف على تجهيزه الخبراء العثمانيين والألمان، وربما يعكس هذا أهمية المعمل، وتفرده في الشرق الأوسط»..
أنهينا جولتنا في متحف الخط الحديدي الحجازي بمحطة "القدم"، إلا أنها لم تنتهي هناك بل بدأت في مكان آخر، من محطة "الهامة" للسكك الحديدية حيث عشنا مغامرة رحلةٍ قصيرة بالعربات الخشبية التقليدية، التي تقودها قاطرة بخارية قديمة، حيث أخذتنا إنحناءات السكة العتيقة، ومسارها الضيق "بردى" إلى منطقة "عين الفيجة" إحدى المصايف الشهيرة غربي "دمشق" على طريق "بيروت"، حيث كانت سكة حديد"دمشق- بيروت" إحدى تفريعات الخط الحديدي الحجازي، قاد الجولة "عصام حجار" الباحث في المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى، وشرح لنا عن مسار هذا الخط: «يمر خط حديد "دمشق- بيروت" من مناطق "الهامة، جديدة الشيباني، الأشرفية، عين الخضرة، عين الفيجة" ويمر بوادي "بردى" وصولاً إلى "سرغايا، معربون، رياق، الفرزل، ضهر البيدر" وصولاً إلى "بيروت".. وفي "لبنان" تخرّب معظم هذا الخط الذي أنشأته فرنسا بامتياز من الدولة العثمانية، ويرتبط مع الخط الحديدي الحجازي في "دمشق"..» في نهاية الرحلة شربنا القهوة المرّة في ضيافة أهل "عين الفيجة"، ثم عدنا إلى "دمشق" حاملين معنا ذكريات زمن مضى، وبقية من رائحة الفولاذ الذي التحم بحنين مع أرض المدينة العتيقة، لتبدو قطعه التي تقاطعت على طول الخط الحديدي الحجازي شرايين حياة، لا قطعاً معدنية صمّاء بلا ذاكرة.