في كل ممر وعلى كل زاوية وبين كلمات هذا وذاك، وسيرة "فلان وفلان" من الناس يمضي الوقت، والمكان ليس إلا مجلساً واحداً ألا وهو المقهى، البيت الثاني والمحتوى اليومي لهموم الكثير من الناس، وإذا ما تجولت في اللاذقية لاحظت وجود أكثر من (100) مقهى قديم، والقسم الأكبر منها حدث وصارت زخارفه من الماضي أي رحلت مع الذين قد رحلوا من شاغري تلك الكراسي التي ما برحت تذكرنا بقصص من كانوا عليها ومن سيأتوا إلى أحضانها.
النرجيلة، وكأس الشاي القديم، ولهجة عمال القهوة، ونداءهم لم ينتهي جماله وانتظارك لنرجيلة عند الصباح، ومعها الشاي "العصملي" يكفي لتعيش لحظات من زمان الحكواتي «أبو خالد» وقصص الزير سالم ومغامرات عنترة.
عناوين تسقط أو حتى تسقطها التطورات التي أسقطت على تراثنا مؤخراً ولم نلحظ إلا مقهى فلان قد رمم، ولم يبقى في اللاذقية إلا القلة القليلة من المقاهي التي تجولت عدسة eLatakia لتنقل ومن وجوه الجميع ذكريات الماضي، فالكراسي مصنوعة من الخيزران القديم، وطاولات خشبية راقدة من سحيق العمر، وجدران عالية الارتفاع وبهو واسع خلاب، وأعمدة مضلعة ترسم في أولها بحيرات في سقف المقهى، وفي أرضيته وعلى مدار الأيام بقيت فيروز تغني في الصباح والآذان تصغي إلى الراديو القديم المعلق على أحد الرفوف القديمة، لتبث على مسامع من وجدوا في المقهى أخبار اليوم من إذاعة دمشق وصوت الشعب، وعند المساء لا يعذر من يخرج منتشياً بصوت "أم كلثوم" الذي تراه ينضج في عمق الليل والذي لحن مع صوت النراجيل أحلى الألحان والعبارات.
ومن الزي التقليدي الذي يحلو في جو من القدم والأصالة، فترى عمال المقهى في زيهم يتحركون حولك بكل حب واحترام وحامل "النارة" الذي يتحرك وراء أصوات من يطلبه ضاحك الوجه، مع "منقله" النحاسي القديم، وفي يده الثانية ترى ذاك الملقط الكبير والذي يغازل بفكيه المدببين من الرأس تلامسات الفحم المشتعل، ومن خلف دفة المطبخ الصغير والقديم هناك اليوم "أبو محمد" القائم على غلي المشروبات الساخنة والتي تراها عادة موضوعة في خزانات صغيرة مصنوعة من النحاس الأصفر، وإلى جانبه مجموعة من الأواني التي تستخدم في تقديم المشروبات الساخنة.
"أبو محمد" تحدث لـeLatakia ووصف وضع المقاهي القديمة بأنه محارب من قبل البعض من الناس وأصبح دخول هذه المقاهي حكراً على كبار السن، وابتعد قسم كبير من الشباب ليتجهوا إلى المقاهي المحدثة من حيث الديكور على الرغم من أسعارها المرتفعة بالنسبة إلى أسعارنا نحن في المقاهي القديمة، وهناك الكثير من رواد المقهى المداومين منذ زمن إلى غاية اليوم منهم الأدباء والكتاب والأطباء والمهنيين ولم يتغير علينا سوى عنصر الشباب والذي يميل بشكل كبير إلى المقاهي الصغيرة، والتي توفر الشاشات الكبيرة حيث تعرض المباريات لأن عصر التلفاز القديم قد ولى، ونحن نحاول توفير كل ما يلزم لاستقطاب الشباب بدون تغيير أي من معالم المقهى القديم وعاداته.
لم يبقى إلا أن نشير إلى أن عدد المقاهي القديمة في اللاذقية انخفض ولم يبقى من القديم اليوم إلا قلة من المقاهي المنتشرة في المناطق التي مازالت رائحة الماضي فيها مثل "الشيخ ضاهر" و"العوينة" و"مار تقلا" و"حي الصليبة" و"منطقة الكورنيش الغربي".