الغائبون هم الذين لا يتركون أثراً في هذه الحياة و إن عاشوا فيها عمراً من الزمن إلا أن المبدعين الذين تركوا بصمتهم في ثقافتنا كما الكاتب المسرحي سعد الله ونوس يبقون أبداً. أحد عشر عاماّ مرّت على رحيل ونوس في 15/5/ 1997 إلا أنه يبقى الحاضر الأكبر في مسرحنا ووجداننا و هو الذي دخل إلى مسامات واقعنا العربي بمرارته و هزائمه و أخذ يستعير أفكاراً من أزمنة ٍ وأمكنةٍ قديمة و يحاول صياغتها بما يتفق مع معطياتٍ واقعٍ نعيشه لينتج مسرحاً يعبّر عن همومنا الكبيرة عبر رحلةٍ حافلةٍ بالإنجازات المسرحية بدءاّ من (ميدوزا تحدّق في الحياة) و صولاً إلى (الأيام المخمورة) أيام مرضه الأخير الذي لم يستسلم له أبداً و إنما واجهه بالكتابة. الرحيل عند سعد الله ونوس لا يأخذ أبداً معنى الغياب فما هو إلا (رحلةٌ في مجاهلِ موتٍ عابر) تماماً مثل تلك العبارة التي نقشت على قبره و تعبر بطبيعة الحال عن الحياة التي يعيشها اليوم تحت ظلال الياسمين والبلوط في مقبرة قريته حصين البحر. دمشق التي عاصرت إبداعات ونوس وهواجسه قرّرت بوصفها عاصمة للثقافة العربية هذا العام أن تحتفي بذكرى المبدع الراحل فسلكت إلى قريته المطلّة على البحر (على بعد 13 كلم عن مدينة طرطوس) طريقاً ممهداً بالحنين مع مجموعةٍ من محبّيه وأبناء الشام ومثقفيها لتغدو قرية حصين البحر على مدى خمس ساعات من الزمن مسرحاً كبيراً للفن والشعر و الكلمات في مدرسةٍ و ملعبٍ ومقبرة و بيتٍ شهد النشأة الأولى لونوس ومازال محتفظاً بآثاره و ذكرياته.
في بيت سعد الله ونوس التقت eSyria بوالدته التي يناهز عمرها الستة وثمانون عاماً بدت ذاكرتها ضعيفة بعد وفاة زوجها قبل أقل من عام إلا أنها مازالت تحتفظ في ذاكراتها الغائمة بصورة سعد الله المتفوّق المجتهد منذ الطفولة( لا أحد كان يمكن له أن يتفوّق على سعد، أو أن يجاريه في التعليم و الثقافة لقد كان دائماً من الأوائل) لم نرد إرهاق ذاكرة أم سعد أكثر من ذلك إلا أنّ أخته ( سعده) أم نضال تحدّثت لنا عن سعد الله الأخ الذي يكبرها بسنتين و كان دائماً قريباً منها( خرجنا معاً للدراسة في مدينة طرطوس منذ سنٍ مبكرة، أخي كان إنساناً منفتحاً وقريباً منّي ولدينا الكثير من الأسرار عن الحب والحياة، كان يرجع إليّ أحياناً في كتابة مسرحياته عندما يريد أن يعرف أكثر عن قصصٍ من موروثنا الشعبي وبيئتنا، سعد الله لم يعش حياةً مترفة قضى عمره يكره الفرز الطبقي و يحبّ الفقراء،أحبّ قريته كثيراً كموطنٍ ريفي وعندما بدأت تأخذ طابع المدينة عمرانياً بدا منزعجاً من ذلك لأنه أراد لقريته حصين البحر أن تبقى بسيطة جميلة وادعة).
انتقلنا من البيت إلى مدرسة القرية لنسمع كلماتٍ تحتفي بونوس ألقتها د . حنان قصّاب حسن الأمين العام لا حتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية،وعجاج سليم مدير المسارح في وزارة الثقافة، و زوجة سعد الله ونوس الفنّانة المسرحية فائزة شاويش.
د. حنان قصّاب حسن: نحتفي اليوم بذكرى سعد الله ونوس الذي لا يوجد موسم مسرحي إلا و يعرض فيه شيء من مسرحياته، و لا يوجد مركز أبحاثٍ مسرحيّة إلا و لمسرحياته فيها نصيب، لأنه استطاع أن يعيش اللحظة المتأرجحة بين الحياة والخلود.
الفنّان عجاج سليم: لأننا نريد العالم أقلّ وحشةً وقبحاً ونعشق الحياة لأنها تستحق أن تكون حبّنا الأزلي، و لأننا محكومون بالأمل ومسكونون بهاجس المسرح وندرك أن الحصار لا بدّ أن ينتهي و أن غداً هو يومٌ آخر فإننا نلتقي اليوم هنا... نريد أن تبقى الحياة مسرحاً نتنفس فيه (أوكسيجيننا) النظيف... مسرحاً علمّنا إياه سعد الله ونوس سيد المسرح و حارس كلماته.
السيدّة فائزة شاويش:إنّ حضارة الشعوب تقاس بعدد مبدعيها و بالاعتراف بقدرتهم على الارتقاء بمستوى بلدهم ، قبل اثني عشر عاماً اعترف الغرب بأن سوريّة بلد حضارةٍ و إبداع عندما تمّ تكليف سعد الله بكتابة كلمة يوم المسرح العالمي التي ترجمت إلى جميع لغات العالم و قرأت على مسارحه، و اليوم يؤكد الغرب هذا بمشاركاته الفعّالة بفعاليّات احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربيّة.
انتقلنا من المدرسة إلى المقبرة حيث احتفى الأحياء بمن هو أكثر حياةً منهم وأحاطوا بقبرٍ غدا رمزاً بحدّ ذاته تعلوه كتلةٌ من الصخر اتخذّت تشكيلاً ما يستلقي عليها كتابٌ حجريٌ مقلوب نقشت على دفتّيه عبارتين( رحلة في مجاهل موتٍ عابر),( إننا محكومون بالأمل) إنها الكلمات التي قالها ونوّس و لطالما نستعين بها لنفتح نافذةً على الأمل ونستمد منها القوة في مواجهة عجزٍ ما من أي نوع، وحول القبر ألقى شعراء من تجمّع بيت القصيد مجموعة من القصائد/الهواجس، الشعراء هم:( عادل محمود- غياث المدهون- مناف محمد- سونيا سليمان- عماد نجّار- سامر إسماعيل)." أيها الأنبياء أرحموا عزيز قومٍ مل(غياث)- طوبى للموت إن كان الموت يحررنا من سجن الموت(عماد)- القمر يغفو على كتفي البحر ويهمس لي لماذا يأتي الشعراء دائماً متأخرين( سونيا)"
من المقبرة إلى ملعبٍ يطلّ على البحر يأخذ شكل ساحةٍ مفتوحةٍ أصبحت اليوم مسرحاً يحتضن عرضاً في الهواء الطلق يتخطىّ المفهوم التقليدي للخشبة، (العميان) مشروعٌ لطلاب المعهد العالي للفنون المسرحيّة بدمشق- السنة الثانية، النص المسرحي للأمريكي( موريس مترليك) ومن إخراج سامر عمران. جاب العميان الساحة في مسيرةٍ يملؤها القلق و الخوف بحثاً عن كاهنٍ اعتادوا على قيادته و توجيهاته لهم. تسللوا من كلّ منفذٍ إلى الساحة و اتكئوا على الحضور في رحلةِ بحثهم المضني ليجدوا أن كاهنهم الذي اعتقدوا أنه خذلهم وتركهم للضياع قد مات، تابعوا مسيرهم ليموتوا جميعاً في مصيرٍ محتوم بعد أن أضناهم القلق والخوف وأجابوا عن أسئلةٍ وجودية عميقة( الناس نيام ما إن ماتوا استيقظوا.. الحلم غبارٌ ملئ بالنسائم.. عبثاً نتلامس بالأيدي ما تراه العيون لا تدركه الأيدي.. هل يعرف أحدٌ ماذا يرى الأعمى؟.. هل وجد الكاهن مايبحث عنه وهو المبصر الوحيد بيننا؟.. العقل وسيلة.. إننا مجرد عابرون.. لا بدّ أن يحكم العميان العالم يوماً لتكون هناك حروباً اقل). الفنّان سامر عمران و الأستاذ بالمعهد العالي للفنون المسرحيّة تحدّث لنا عن الفكرة(عملنا مع طلاب السنة الثانية في المعهد ضمن منهاجنا الدراسي على الشخصية الشعبية ، ثم انتقلنا إلى الواقعية عموماً ومنها الواقعية الأمريكية التي ينتمي إليها هذا النص، اخترنا هذه المسرحية لأنها تجمع بين التجريد والرمزيّة وفي هذا أهمية كبيرة للانتقال بطلابنا من الواقعية إلى التجريد، كون العرض خارج نطاق الخشبة أمر مهم من الناحية الوظيفية لإبراز الإمكانات الجسدية والصوتيّة للمثل وقد حققّنا غايتنا من العرض في هذا التفاعل المحسوب بدّقة بين الممثلين والحضور ، لا توجد شخصيّة نمطية للأعمى فالعميان ليسوا مجموعةً واحدة وهذا تطلب المزيد من البحث بالنسبة للممثلين، نحن عملنا اليوم على نصٍّ كوني في مناسبةٍ تحتفي برجلٍ كوني هو سعد الله ونوس) وأضاف عمران أنّ عرض اليوم لا ينظر إليه كامتحان للطلاب فالامتحان سيكون في المعهد حيث ستعرض المسرحية لمرتيّن و يقيّم أداء الطلاب على أساسها، هناك من همس في أذن عمران( لا داعي للامتحان فبإمكانكم منح الطلاب إجازة في التمثيل على أساس عرض اليوم و هذا يكفي). ( العميان ) لم يكن العرض الأخير ففي ساحة مدرسة القرية كان لنا موعدٌ مع عرضٍ ثانٍ اختتمت فيه فعاليات هذا اليوم الاحتفالي( جثّة على الرصيف) النص لسعد الله ونوس و الإخراج للفنان أسامة حلال مؤسسة فرقة (كون) المسرحيّة التي تقدّم عروضها المسرحيّة خارج المكان التقليدي للمسرح ، فالمرّة الأولى التي قدّم فيها هذا العرض كانت في نفق العبّاسيين بدمشق، ( جثّة على الرصيف) تدّق جرس الإنذار في وجه سلوكيّاتنا والحالة المزريّة التي يمكن أن نصل إليها إذا ذهبت مجتمعاتنا بعيداً في حالة التفكك الاجتماعي، علينا أن نعي سلوكنا وننتبه إلى أفعالنا قبل أن تأخذنا همومنا الماديّة إلى مكانٍ نفقد فيه إنسانيّتنا. قبل أن نواجه جثّة آدميّة على رصيفٍ ما لا تجد من يدفنها والكل يتعامل معها من وجهة نظر مطامعه الخاصّة دون أن يتحّمل مسؤوليتها، و ربمّا يُنعم أحد الأثرياء على تلك الجُثّة بدفنها في أحشاء كلبه ليصبح الميّت المجهول الهوّية يوماً طعاماً للكلاب.
انتهى العرض.. انتهى المهرجان ومازالت أصداؤه ترّن في مسامعنا.. عدنا إلى دمشق حاملين معنا نسائم سعد الله ونوس وروح المكان الذي نشأ فيه وروائح الغاردينيا والليمون وألوان الزهر الذي ينتشر في كل زاويةٍ من قرية حصين البحر.