البنية الجسدية المتناسقة والقدرة على ضبط عملية التنفس لعدة دقائق متواصلة، مكنت الغطاس البحري "درويش شاحوط" من اكتشاف أعماق البحر والعثور على حطام سفينة شراعية غارقة منذ عدة عقود، الصياد المتمرس أدخل بدلة الغطس والقناصة البحرية للصيد البحري في طرطوس.
سفينة الكنز
عاش "درويش" ابن مدينة طرطوس القديمة وانسجم مع المياه البحرية، وورث مهنة الصيد من عائلته رغم محاولة إبعاده عنها، وتعليمه مهنة أخرى مثل النجارة خوفاً عليه من غدر البحر، كان مغرماً بالأعماق البحرية وسحر ذاك العالم المختلف حتى إنّه أدرك تفاصيله، فكان يقضي ساعاتٍ طويلة ضمن المياه يتجوّل بين تفاصيل الأعماق ويستكشفها ويسجّل في ذاكرته مشاهداته، ويقاطع معلوماته ليصل إلى الكنز الذي ابتلعه البحر على مر السنين.
في إحدى مرات الغطس بين مجموعة من أسماك القرش، لم يستلطف وجودي أحدهم، فقرّر مهاجمتي، ما دفعني للسباحة بسرعة هرباً منه، ولشدّة سرعتي ومراوغتي له والتي لاحظها الرياسة في القارب، أطلقوا علي اسم "الطارود"، حيث إنه لحظة وصولي إلى سطح المياه خرجت لمسافة تقارب المتر نتيجة سرعة الهروب، فتعلّقتُ بالقارب ونجوت بأعجوبة
وكانت أولى تلك المحاولات مطلع الثمانينيات عندما عثر وفريق عمله من الصيادين والرياسة، على حطام سفينة شراعية أثرية غارقة في عرض البحر منذ سنوات طويلة، دلّت عليها نوعية السفينة الغارقة وتآكل أجزائها، حيث أبلغ السطات البحرية والأثرية عنها وسجل هذا الاكتشاف باسمه رسمياً بموجب وثيقة رقم /12073/10/11 للعام 1984.
يقول "درويش": «تم التنسيق رسمياً مع بعثة أثرية تلفزيونية يابانية لانتشال حطام السفينة الشراعية الغارقة، وتصوير العمليات وبثها مباشرة عبر الأقمار الصناعية للجهات المعنية بالأمر.
وكانت تكاليف تلك العملية كبيرة جداً، ولكن ما عثر عليه استحقّ تلك الجهود والتكاليف، وعليه صدرت وثيقة رسمية تثبت حقي بالاكتشاف وتنوه إلى وجوب حصولي على مستحقات مالية ومكافأة لهذا الإنجاز، لكن لم يحدث هذا حتى الآن، والمفارقة أنه خلال عمليات الغطس والصيد عثرت على أربعة مواقع بحرية أخرى، يوجد فيها حطام سفن شراعية تعود إلى فترات زمنية متعددة، ولم أكشف عنها حتى الآن، وقد رسمت خارطة تحدد مواقعها بدقة لتبقى ذكرى وإرثاً لأبنائي من بعدي».
ويضيف : «يحتاج الغطس إلى الصبر والتركيز للتمكّن من صيد الأنواع الممتازة من أسماك الأعماق المميزة وثمارها، وخاصة منها سمكة "اللقس" والمحار، كما يحتاج الى أعصاب قوية وهادئة لتلافي الأخطار التي يمكن أن يتعرض لها الغطاس خلال الغطس، ومنها مهاجمة كلاب الماء الشرسة كما حدث معي منذ عدة سنوات، حيث انجذب أحد الكلاب للون الزعانف الصفراء وبدأ بمطاردتي واضطرني للعودة إلى القارب».
محاولات فاشلة
في مرحلة من المراحل حاول والد الغطاس "درويش" إبعاده عن البحر والصيد، فأرسله لتعلم مهنة النجارة رغماً عنه، ولكنه لم يجد نفسه فيها فهرب منها إلى البحر مرة أخرى وقرّر أن يثبت نفسه وجدارته بالغطس، فاشترى بدلة غطس كاملة مع بندقية قنص بحرية من "لبنان"، وأكد أنه كان أول من فكر بها وحصل عليها بعد عدة أشهر من جمع المال لدفع ثمنها، حيث لم تكن معروفة بين أوساط الصيادين والغطاسة في "طرطوس"، وبدأ بالتدرب على البندقية والتسديد على ألواح التين الشوكي حتى أتقن التصويب.
ويشير إلى أن قنص الأسماك يحتاج إلى دقة عالية، فلا يمكن إصابتها بجسدها لعدة أسباب، أولها أن سعرها ينخفض نتيجة تشوه الجسد بسهم البندقية، وثانيها أن بعض الأسماك الكبيرة تتحمل تلك الإصابة بالجسد فتهرب مسرعة إلى أوكارها، ما يجعل عملية الحصول عليها صعبة وتحتاج إلى حنكة وزمن للمحافظة على سلامتها، لذلك فإن قنص السمكة يجب أن يكونَ بمنطقة الرأس بالنسبة للقناص الماهر.
مواقف خطرة
في المياه البحرية جانب لا يؤتمن وهو أسماك القرش التي تشكل خطراً كبيراً على الغطاس وفق ما يؤكد الغطاس، حيث يقول: «في إحدى مرات الغطس بين مجموعة من أسماك القرش، لم يستلطف وجودي أحدهم، فقرّر مهاجمتي، ما دفعني للسباحة بسرعة هرباً منه، ولشدّة سرعتي ومراوغتي له والتي لاحظها الرياسة في القارب، أطلقوا علي اسم "الطارود"، حيث إنه لحظة وصولي إلى سطح المياه خرجت لمسافة تقارب المتر نتيجة سرعة الهروب، فتعلّقتُ بالقارب ونجوت بأعجوبة».
صيد الأسماك لم يكن العمل الوحيد الذي امتهنه "درويش" وتميّز به، فقد عمل بصيد الإسفنج أيضاً وتجول لأجله في البحر المتوسط بأكمله وعلى أعماق مختلفة بدءاً من عشر قامات بحرية وحتى الثلاثين قامة، وعثر كما يؤكد على الإسفنج الأبيض الناصع والذي يعتبر كنزاً، وكذلك اكتشف ينابيع مياه جوفية عذبة ونقية وبغزارات كبيرة ومتعددة، فرسم مواقعها على خارطته وحدّدها بدقّة.
بدوره، يؤكد الصياد "خالد عثمان" أن الغطاس "درويش" هو واحد من أمهر أربعة غطاسين عرفتهم "طرطوس" وأقدمهم، ممن جابوا قاع البحر بعدة الغطس الاحترافية "الفرنيزة"، وهو كان من أوائل من أدخلها للعمل البحري في المدينة.
ويضيف: «عملت في الصيد البحري والغطس مع "شاحوط" بداية العام 1974، وأدرك تماماً أنه يعلم قاع البحر بالمتر ولا يُخفى عليه تفاصيل تضاريسه وكهوفه وأرضه الموحلة والمنبسطة والصخرية فقد جابه تماماً بحثاً عن الإسفنج البحري، وهو يُعدّ من أمهر من عمل بصيد هذا النوع وأكثرهم براعة، حيث أدرك طريقة صيده وحاجة الأسواق الخارجية له، لذلك كرّس جلّ وقته لصيده، وكان يقضي ساعات في البحر باستخدام عدة الغطس "الفرنيزة"، وأشير إلى أنه لم يحصل على حقّه الكامل من عمله البحري، وخاصة عندما اكتشف حطام السفينة الأثرية الغارقة بإدراكه لقاع البحر جيداً».