منذ بداية مشوارها العملي في مهنة المحاماة، أعطت المحامية "رسمية طه" مهنتها نصيباً وافراً من الاهتمام، وأسبغت عليها الكثير من الاعتبارات الإنسانية التي تربت عليها والتي لم تحد عنها، وكان شرطها حين خسارة أي دعوة إعادة التكاليف المادية لموكلها، ناهيك عن هاجس الالتزام بالوقت الذي كان حليفها منذ بداية انتسابها للنقابة، كأول محامية في مدينة "بانياس".

دعم ومساندة

لم تكن أسرة المحامية "رسمية" لتعارضها في دراسة الحقوق والعمل كمحامية، وإنما كان الاعتراض في البداية نتيجة الخوف عليها مما قد يطولها من هموم ومشاكل ومنغصات المهنة، ما قد يؤثر على طبيعتها وحياتها الخاصة، فتأخذها هموم الناس من حياتها الشخصية، وكأن الأسرة بذلك كانت تقرأ المستقبل وما ينتظرها فيه، ولكن سرعان ما تحول هذا الخوف إلى دعم ومساندة في مسيرتها المهنية، وهو الأمر الذي حملها مسؤولية كبيرة تجاه مجتمعها بالدفاع عن حقوقهم، فوالدها كان يخاف من أن يغريها مال المهنة فتخضع لسلطته (المال) مجبرة أو مخيره، أو أن تـأخذ النظرة الذكورية لعمل الأنثى وخاصة في مهنة المحاماة في تلك المرحلة الزمنية، شيئاً من قوة شخصيتها فتضعفها، فهي الفتاة المدللة بين أفراد أسرتها والقوية والطيبة والمثقفة أيضاً، حتى أن عمها شقيق والدها رفض توظيفها وقال كلمة تتذكرها حتى يومها هذا، وذلك منذ أكثر من ثلاثين عاماً بكونها أشعلت القوة والعزيمة لديها فباتت أكثر إصراراً على مزاولة المهنة.

شخصياً أرى أن المهنة للمحامي الملتزم متعبة جداً، فقد كانت الدعاوى القضائية ترافقني في مختلف تفاصيل حياتي اليومية، مما جعل طبيعتي كأنثى تتأثر بالمهنة

تلك البيئة كانت دافعاً لها، ولا تنسى دور والدها الطيب الملتزم وتأثيره في طبيعة تفكيرها تجاه الآخر بإنسانية مطلقة ما جعلها ملجأً لجميع أبناء مدينة "بانياس" وريفها، حيث استطاعت أن تصل لقلوبهم بتحيزها المطلق تجاه الحق، فبات مكتبها مقصد أبناء الريف والمدينة على حد سواء.

شهادة ممارسة المهنة منذ عام 1988

مسيرة متميزة

خلال العمل في مكتبها

تؤكد خلال حديثها لمدونة وطن eSyria أن عنوان رسالتها المهنية هو الإنسانية، فلا شيء من وجهة نظرها يعلو عليها كقيمة، انطلاقاً من إيمانها بالطبيعة الطيبة والبسيطة لهذا الإنسان والتي تحتاج دوماً للتجدد والنظر من خارج الصندوق، فالمياه الراكدة عرضة للعفن من وجهة نظرها، وهذا ينسحب على المجتمعات المنغلقة التي تحتاج لرياح متحركة تجعلها مجتمعات أكثر صحية وحيوية.

تقول المحامية: «قبل دراسة الحقوق كان حلمي دراسة التاريخ والتخصص به وصولاً لأعلى الدرجات العلمية، فقد أثرت قراءاتي الكثيرة لكتب التاريخ في سن مبكرة من حياتي، في الوقت ذاته تأثرت بعمل جدي كمحامي، وما كان يتحدث به أمامي عن الدفاع عن حقوق الناس وصون كرامتهم بالقانون، وهذا ما زاد إصراري على النجاح والعمل بالتخصص الجامعي الذي درسته لأكون أول محامية في مدينة "بانياس" تمارس المهنة بعد الحصول على الأستذة عام/1988/.. لم يُسجل في سجلي المهني الممتد لحوالي أربعة عقود أي توكيل باسم قاتل أو مذنب، فلم يجرؤ أحد على توكيلي بهذا النوع من القضايا، لأني ومنذ البداية رسمت الخطوط العريضة لمسيرة حياتي المهنية التي تعتمد في جوهرها على التعامل الإنساني أولاً وأخيراً والابتعاد عما حرمه الله، لذلك عرفت بنصرة المظلومين بشكل عام».

المحامية رسمية رفيق طه

تتذكر "رسمية طه" أول قضية أسندت لها وكانت قضية تتعلق بطلاق سيدة عرفتها عن قرب، وأدركت ما كانت تعانيه من ظلم وتعنيف أسري. وتضيف: «شخصياً أرى أن المهنة للمحامي الملتزم متعبة جداً، فقد كانت الدعاوى القضائية ترافقني في مختلف تفاصيل حياتي اليومية، مما جعل طبيعتي كأنثى تتأثر بالمهنة».

دهب عتيق

اتخذت "طه" لنفسها ثلاثة عناوين عريضة هي الجرأة والمصداقية والأمان، وحملتها معها في رسالتها الإنسانية بمهنتها، فلا يمكنها أن تبيع قضية أو تنحني لرغبة ظالم مهما علا شأنه، وقد فرضت احترامها على موكلها وخصمها على حد سواء، فضلاً عن أن مسيرتها المتميزة وسمعتها العطرة في منطقة "بانياس"، جعلها منفتحة على مختلف المبادرات المجتمعية والإنسانية كمبادرة "دهب عتيق" التي أقامتها الجمعية السورية للتنمية الاجتماعية للنساء المؤثرات اجتماعياً ومهنياً في مدينة "بانياس"، والتي تهدف لطرح ومناقشة المشاكل الاجتماعية بهدف الوصول إلى تقارب في وجهات النظر والحلول الممكنة.

في عام 1988 اقتنت المحامية "رسمية" سيارة موديل "بيجو 104" بمساعدة والدها، حيث لم يكن يتجاوز عدد من يملكون السيارة في تلك الفترة حوالي /20/ شخصاً في كامل المدينة وريفها، فكانت أول سيدة تقود السيارة في "بانياس" وبين أحيائها رغم نظرات الناس التي كانت تلاحقها، فهي تعتبر قيادة السيارة حب وعشق وغرام تملكها حتى الوقت الحالي.

المهنة لم تأخذها من حياتها الخاصة مكرهة وإنما اختارتها بكل حب وشغف، فهي مهنة السيادة المشروطة بالشخصية الحرة، فالتفكير بالنسبة لها بحيثيات وقضايا الناس والخوف من خسارة أي دعوة يحرض التفكير المستمر بالقضايا حتى بعد الانتهاء منها، ما ألغى عامل خصوصية الزمن ومراحله لكل قضية، وحفاظاً على السمعة الطيبة بين الناس ورحمة لوالدها كانت تطمئن موكليها بنتيجة الدعوة القضائية مسبقاً، ونجاحها المحتم وتخبرهم أيضاً أنه حين احتمال خسارتها يستطيع الموكل استرداد كامل نقوده التي دفعها سلفاً.

وعلى المقلب الآخر ترى أن الزواج هو سنة الله، وبالعموم لم تصادف على حد قولها الرجل المناسب لذلك اختارت النجاح بالمهنة والتضحية بحياتها الخاصة،.

المرأة الرائدة

المحامي "محمد كناج" نقيب محامي "طرطوس" سابقاً والذي عاصر المحامية "رسمية طه" عدة دورات في النقابة، ولفته بها جرأتها بطروحها القانونية وتمردها على العادات البالية وخبرتها وفهمها للقانون والمهنة بشكل لافت.

ويقول "كناج" في حديثه: «لم تكن تبخل في منح النصائح القانونية والإرشادات التخصصية التي تنم عن خبره سنوات، للمبتدئين بالمهنة والباحثين عن المعرفة، فرغم خصوصية مدينة "بانياس" تمكنت من تسجيل اسمها في سجلات النقابة والعمل المهني كأول محامية بالمدينة ورابع محامية على مستوى المحافظة، كما تمكنت من تكريس دور المرأة كرائدة في هذا المجال وانصافها بالحصول على حقوقها التي لم تكن واضحة في تلك المرحلة المبكرة وبالشكل الذي يليق بها كأنثى».

ويضيف "كناج": «لم ينحسر دورها في الهموم القانونية، بل تعدى ذلك لتكون بحسب معرفتي بها مشاركة في الهم المجتمعي، من خلال فهم الحقوق والواجبات والتقيد بها دون تمرد معلن، مما ساهم برسم ملامح حياة جديدة للمرأة في تلك المدينة الصغيرة بحجمها والعظيمة بعطائها»