تفردت الراحلة "منتهى سلوم" بعملها في سن مبكرة، إذ خاضت غمار مهنة كانت صعبة حتى على الرجال، فأنجزت عمليات الصيانة والإصلاح للقطع التالفة والمتآكلة وأرشفت أصولاً كل أعمالها، وحصلت على شهادة مزاولة مهنة من الجهات الرسمية، فكانت أول سيدة في "طرطوس" تمتهن صيانة بنادق الصيد.

مهنة خشنة

تأثرت "منتهى" بعملها المتفرد في صيانة بنادق الصيد منذ كانت صغيرة تلازم والدها "جبرائيل" أو كما كان يعرف بـ "جبرا" وتراقبه في عمله بصيانة مكابس الزيتون وصيانة البنادق، فلم يذكر خلال مسيرة حياتها أنها ارتدت تنورة نسائية كما بقية قريناتها وفق الشائع في تلك الفترة سوى مرة واحدة علقت في أذهان الجميع حينها، فقد وجدت في اللباس الشبابي شخصيتها المستقلة التي تبلورت بعملها، والذي تحدّت من خلاله بيئتها المحيطة على نطاق واسع، وفق ما يؤكده "طوني ديب" ابن حيها في "ضهر محيرز" في مدينة "بانياس" والقريب من عمرها.

كانت بارعة بالرماية وجرى الكثير من مواقف التحدي بينها وبين صيادين وكانت هي المنتصرة

فقد كان لباسها المميز في مرحلة الشباب عبارة عن الطقم الرسمي دوماً، وبعدها تغير إلى البنطلون الجينز والقميص، أما علاقتها مع الصيادين وبنادقهم كانت تفرض نوعاً من الجدية التي يجب أن تكون موجودة خلال الحديث، كي تثبت أن مهنتها في الصيانة ليست حكراً على الرجل بل هي موهبة وشغف، ومن يمتلكه يمتلك القدرة على الإبداع والتميز.

منتهى سلوم بلباسها الرسمي

أصبحت "منتهى" في ذلك الوقت أشهر من نار على علم في عملها، ويقصدها جميع الصيادين من كل حد وصوب، وخاصة من لديهم مشكلات مستعصية في بنادق صيدهم، وفق ما يؤكده الصياد "فايز شدود" من ريف مدينة "بانياس"، أحد زبائن "منتهى جبرا" منذ سنوات طويلة، والذي يضيف: «في إحدى المرات قررت تبديل المسند الخشبي لبندقيتي الفرنسية التي لم أجد لها قطعة صيانة بديلة نتيجة قدمها، فقصدت "منتهى" لمعرفة إمكانية تبديلها، فقررت رسمها وتفصيلها في ورشتها الصغيرة التي ورثتها عن والدها وطورتها قدر الإمكان، وفعلاً صممت مسند بطريقة احترافية لا يمكن تمييزه عن الأساسي المتهالك، ما أعاد الرونق الجميل لبندقيتي وكذلك الأمر بالنسبة لباقي الأنواع من البنادق».

شغف العمل

تميز عمل "منتهى" في صيانة وإصلاح بنادق الصيد بالشغف الكبير، ما أخذها من حياتها كأنثى تحلم ببناء أسرة، وباتت ذات شخصية مختلفة تماماً عن قريناتها، وفق ما تؤكده "نورا حرفوش" ابنة شقيقتها المقيمة معها في منزلها سنوات طويلة قبل مفارقتها الحياة.

فقد عاشت "منتهى" رحمة الله عليها حياة، حسب قولها، رغيدة جداً في صغرها، وكل ذلك يعود لطبيعة علاقتها بوالدها الرجل المهني المحب لعمله، فقد كانت الطفلة الصغيرة المدللة لديه رغم وجود فتى يكبرها بالسن وأخوات بنات أيضاً.

وتشير "حرفوش إلى أن" منتهى" تعلمت من والدها كل شيء في الصيانة، وباتت الصيانات الدقيقة والمعقدة وخاصة منها المتعلق ببنادق الصيد حرفتها في بداية شبابها ومهنتها التي تعتاش منها حين باتت مسؤولة عن ذاتها ومستقلة عن الأسرة، فقد كانت تحب الاعتماد على الذات كثيراً وتكره الاتكالية، فامتلكت شخصية اختلفت جذرياً عن بقية قريناتها الإناث.

طوني ديب

هذا الاختلاف -حسب "نورا"- في التفكير كان له منعكس جوهري على الاختلاف في الشكل واللباس والحديث والعمل وكل شيء، فباتت شخصيتها وتصرفاتها أقرب إلى الشبابية، وربما كان لطبيعة عملها في صيانة وإصلاح بنادق الصيد دور كبير في هذا الاختلاف والتغيير، فلباسها في مرحلة الشباب كان مختلفاً عن لباس الفتيات حينها، وتتبدل أشكاله وألوانه دوماً، ولكنه كلاسيكي وله مدلولاته في طبيعة حياة مرتديه، وبعد سن الثلاثين تقريباً تغيرت طبيعة لباسها جذرياً وباتت تعتمد على أطقم السبور شيك المكونة من بلوزة أو قميص مع بنطلون جينز وحذاء نعل متناسق معهن لونياً، فكانت لافتة حين مرورها في أي حي أو شارع أو مكان في مدينة "بانياس"، وكل هذا ناتج عن طبيعة عملها في بنادق الصيد التي أحبتها بشكل غريب وتمكنت منها بكل براعة.

براعة وحرفية

وتضيف "حرفوش": «ظهرت البراعة والحرفية العالية في العمل حين تقدمت الراحلة للحصول على رخصة رسمية من الجهات المعنية المختصة لمزاولة مهنة صيانة وإصلاح بنادق الصيد بشكل رسمي، وحصلت على الترتيب الأول في الاختبار النهائي على مستوى "سورية"، فالتعامل مع بنادق الصيد يحتاج إلى خبرة يجب التأكد منها رسمياً، وكانت الأنثى الوحيدة بين نحو /25/ رجلاً متقدماً لامتهان هذا العمل رسمياً، وبقيت حتى أواخر أيامها وحيدة في العمل من دون منافسة أنثى أو ذكر».

عملت بمهنتها بحرفية عالية شهدت عليها سجلاتها الرسمية حيث أرشفت تفاصيل كل بندقية أصلحتها أو أعادت صيانتها بالكامل، وهنا تقول "حرفوش": «أحبت مهنتها كثيراً وبشغف كبير مكنها من صيانة أصعب وأعقد البنادق من حيث الحركة الميكانيكية لها، كما تمكنت خلال عمليات إعادة الإصلاح من تصنيع أجزاء من أي بندقية متهالكة وبدقة كبيرة شهدت عليها آراء الزبائن..

وبحكم إقامتي معها منذ الصغر فقد واكبتها حين صنعت إبرة الانفجار الخاصة ببندقية الصيد أول مرة، وكذلك المساند الخشبية التي تتكئ على الكتف».

"منتهى جبرا" كما عرفت بين أوساط الصيادين، تأثرت بطبيعة مهنتها كثيراً، فباتت حادة الطبع قصيرة الشعر أنيقة كما الشباب، تضع سلاحها المرخص أصولاً على خصرها كما الصيادين، وامتلكت شعبية كبيرة بين أبناء مجتمعها وجميع زبائنها، وحتى أطفال الحي الصغار، فتحن على الكبير وتجالسه، لدرجة أن الكثير منهم الآن حين يرى ابنة شقيقتها وفق ما أوضحته في حديثها لـ"مدونة وطن eSyria" تسير في الحي يترحم على "منتهى" ويذكر مناقبها.

تقول "حرفوش": «كانت بارعة بالرماية وجرى الكثير من مواقف التحدي بينها وبين صيادين وكانت هي المنتصرة».

يشار إلى أن "منتهى جبرائيل سلوم" توفيت عام 2022 وهي مواليد عام 1950 قرية "يازدية حمدان" منطقة "صافيتا".