تميز السوق القديم بمدينة "حلب"، وهو السوق الأشهر محلياً وعربياً، بوجود عدة محلات متجاورة عند مدخله من الجهة الشمالية متخصصة بتصنيع وبيع وتصليح الخزائن المعدنية والمتعارف عليها ما بين عامة الناس باسم (الكاصات)، ويقال إن أغلب أصحاب محلات سوق المدينة من صاغة ومجوهرات وتجار ألبسة وسجاد وغيرهم، كانوا يحرصون على وجود الكاصات داخل محلاتهم لحفظ (الغلة والمستندات والأوراق)، على أن يبقى المفتاح حصراً بيد المعلم صاحب المحل ولا يسلمه لأحد غيره.

لمحة تاريخيّة

يقال إن العرب هم أول من اخترع فكرة جمع المال ووضعه ضمن بيت أمين سموه بيت مال المسلمين، ووضعوا عليه مشرفاً سموه خازن المال، يحفظ الأموال ضمن صندوق خشبي صلب ومتين ومحكم، مشهور له بالثقة والأمانة وحسن التصرف والتدبير والفطنة والذكاء، ومع تطور العصور جاءت الفكرة بأن يكون الصندوق أكثر قوة ومصنوعاً من المعدن بدل الخشب.

بعد الأزمة ودمار السوق انتقلت بحرفتي ومهنتي، وافتتحت محلاً خاصاً "بسوق باب جنين" وبذلك يكون قد مضى عليَّ بهذه المهنة ما يقارب خمسة وعشرين عاماً، تطور خلالها شكل وصناعة الكاصات وأوزانها كثيراً عن الماضي ما بين العادية التقليدية والرقمية والإلكترونية الحديثة

وفي مدينة "حلب" ذاع صيت وشهرة سوق المدينة القديم، بجودة وصناعة الكاصات المعدنية المتعددة الأحجام والأوزان والأنواع، وتم تصدير تلك الصناعة لأغلب المدن السورية والدول العربية، وقد اشتهرت عائلة "الأيوبي" بخفايا هذا الكار من بدايته حتى نهايته في الصناعة والبيع والشراء والتصليح والتوزيع، وجاء بعدهم المعلم الأرمني "قزانجيان" مع مجموعة "سقال".

تجريب وفتح اقفال الكاصات الإلكترونية والمتنوعة.

ولأن الأزمة المنصرمة أتت على الكثير من معالم سوق المدينة، وأخرجته مثل باقي الحرف والمهن من مكانها الأصلي، راح كل صاحب حرفة ومهنة وتجارة وصنعة يركن بضاعته ومنتجاته بسوق جديد، فيما اتخذ بعض أصحاب تجارة بيع الكاصات من سوق الفرقان مكاناً لهم لعرض وبيع بضائعهم، ومن النموذجين القديمة الثقيلة والحديث بنوعيه الرقمي والإلكتروني وذي البصمة.

أصول الحرفة

وعن حرفة ومهنة إصلاح الكاصات بجميع تفاصيلها يقول الحرفي "عبدو درويش"- 53 عاماً لـ"مدونة وطن eSyria": «منذ صغري كنت مولعاً بفرط وتجميع وإصلاح أقفال أبواب غرف منزلنا، وفي حال الاستعصاء وصعوبة الإصلاح، كنت أذهب لمعلم تصليح الأقفال "أبو ديبو بابللي" في "حي ميسلون"، وكنت أراقبه وهو يعالج الأخطاء التي وقعت بها للاستفادة منها، وبعد تلك المحاولات ما بين التصليح والتعلم، بدأت خبرتي تزداد بفك الكثير من أنواع الأقفال». ويضيف: «لاحظ والدي ميولي لهذه المهنة، وسألني عن رأيي بتعلم مهنة أكثر أهمية ودقة وهي تصليح أقفال الكاصات، فذهب بي لصديقه وشيخ الكار لتصليح الكاصات بسوق المدينة الراحل "زكريا أيوبي"، وقال له أريد منك أن تعلم ابني مهنة كار فك وتجميع وتصليح أقفال الكاصات ومن دون أن يتقاضى أي أجر، وبقيت عنده بالمحل لمدة عشر سنوات.. في البداية كان يطلب مني حمل حقيبة التصليح الثقيلة والذهاب معه خارج المحل لتصليح أي عطل طارئ يطلبه أحد الزبائن، ومع مرور الزمن ومتابعتي الدقيقة لأسرار هذه الحرفة بدأ المعلم "أيوبي" يمنحني بعض الثقة بالتصليح ليتأكد من فهمي ومعرفتي لهذا الكار، ثم يكمل هو ما بدأت به ويرشدني إلى كافة خطوات إعادة تجميع الأقفال وتجريبها وفتح الكاصة بسلاسة ويسر عدة مرات أمام صاحبها، ويقدم لصاحب الخزنة النصائح الجوهرية، وأهمها حفظ كلمة السر.. وبعد وفاة معلمي "زكريا" تابعت تعليمي عند شقيقه "غسان" وهو من كبار الحرفة أيضاً وبعد عودتي من خدمة العلم قررت فتح محل خاص بي داخل السوق».

صورة توضح تموضع شبكة الاقفال على الباب الرئيسي.

المهنة صعبة ومرهقة يقول "درويش" وأهم ما يتطلبه النجاح فيها الأمانة والثقة ما بين معلم الحرفة والزبون، وعدم نشر أسراره ومحتويات كاصته للعموم.

ويختم بالقول: «بعد الأزمة ودمار السوق انتقلت بحرفتي ومهنتي، وافتتحت محلاً خاصاً "بسوق باب جنين" وبذلك يكون قد مضى عليَّ بهذه المهنة ما يقارب خمسة وعشرين عاماً، تطور خلالها شكل وصناعة الكاصات وأوزانها كثيراً عن الماضي ما بين العادية التقليدية والرقمية والإلكترونية الحديثة».

الكاصات المتنوعة مابين القديمة والحديثة.

تخصّص وجودة

وانتقلت المدونة "لحي الفرقان" ودخلت محل الصانع" محمود عاصي" الطالب الجامعي بكلية العلوم، والذي يتحدث أيضاً عن بعض من خصائص العمل ببيع وتصليح الكاصات بالقول: «هذا المحل لوالد صديقي وأنا أعمل هنا وأساعدهم بإدارة شؤون محلهم.. ما زلت حتى الآن في طور تعلم المزيد من أسرار التصليح.. ورويداً رويداً بدأت أتعرف على طريقة الإصلاح، فالكاصة العادية تعتمد على مفتاح وحركة ورقم سري، والكاصات الحديثة هي رقمية إلكترونية، وهناك شيء يحل الأمور المستعصية عند الاستعصاء هو مفتاح الطوارئ وباللغة الفرنسية اسمه (مستر كي) أي سيد المفاتيح».

يؤكد "عاصي" أن أهم خطأ يقع به مستخدم الكاصة هو نسيان كلمة السر أو القفل على المفتاح الذي يستخدمه ما يضطره للاستعانة بمعلم التصليح، أما أهم الأدوات المستخدمة بالتصليح هي المفكات وصاروخ الجلخ والمطرقة والإزميل وترانس اللحام، ودائماً خلال التصنيع توضع الشبكة المعدنية مع المسننات للأقفال خلف الباب الرئيسي، وعند التصليح يجب التعامل بهدوء وخبرة كي لايكون الضرر أكبر من الإصلاح ومكلفاً مرتفع الثمن.

خطوة بخطوة

ختام جولة المدونة كانت مع معلم التصليح "محمد زعيرباني"- 41 عاماً حيث يقول: «تعلمت أصول تصليح حرفة الكاصات عند "حج عارف أيوبي" بسوق المدينة وكان من شيوخ المهنة ولديه خبرة واسعة، ودائماً كان يردد على مسامعي، "عند قيامك بالتصليح ابدأ بالخطوات الهادئة والتعاون مع صاحب الكاصة على أن يتذكر الرقم السري الذي كان يستخدمه، وابدأ بتجريب الاحتمالات الأخف ضرراً، ولاتلجأ لقص الباب مباشرة إلا كآخر مرحلة وعند استنفاد كل الوسائل الممكنة».

وعن سبب ثقل وزن الكاصات يضيف "زعيرباني": «هذا عامل مهم وضمان كي لاتتعرض للسرقة، فالكاصة مؤلفة من ألواح معدنية مترادفة بسماكة معينة، ويوضع بين الألواح صبة بيتون مخلوطة بالبحص والرمل تعطي الثقل، ومع مرور الزمن تطورت صناعة الكاصات ما بين المعدنية القديمة ذات القفل والقبضة الواحدة، وصولاً إلى الإلكترونية والرقمية وذات البصمة».

ويشير الحرفي إلى أن مدينة "حلب" كان لها السبق بصناعة أجود أنواع الكاصات المعدنية عن طريق معلم "قزاننجيان" قبل أن يهاجر، ويتم حالياً الاستيراد من أسواق "دمشق وطرطوس وحماة" ريثما تقلع معامل مدينة "حلب" من جديد.

تم إجراء اللقاءات والتصوير بتاريخ الأول من شهر آذار لعام 2023 بأحياء "باب جنين والفرقان".