لعل المتصفح لأرشيف الزمن الماضي، الذي تركه لنا أباؤنا وأجدادنا، سيجده مملوءاً بالكثير من العادات والتقاليد التي طواها الزمن ليتركها محفوظة داخل دفاتره "العتيقة" لتتطلع عليها الأجيال الحاضرة، ومن تلك العادات التي نسجت خيوطها بصوف الأغنام، المغزل اليدوي والذي نادراً ماكان يخلو منزل من رائحة عبقه.

حرفة تراثية

بعد قصاص الأغنام الذي يبدأ عادة في أشهر التحاريق، تهرع "ام طلال نوفا مقلد" إلى خزانتها الخشبية القديمة، باحثة عن مغزلها الذي طالما رافقها في رحلة مهنتها اليدوية سنوات طويلة، لتحول أصواف الأغنام إلى خيوط صوفية خالصة تستخدم فيما بعد في صناعة السجاد اليدوي والوسادات، لتعود بذاكرتها إلى الوراء أربعين عاما، مستذكرة تلك الليال الطوال التي قضتها مع " المغزل" حتى أصبح أنيسها وونيسها في عتمات الليالي.

توضح "مقلد" في حديثها للمدونة أن مهنة غزل أصواف الأغنام، متوارثة من جيل الجدات إلى جيل الأمهات وصولا إلى الجيل الحالي، الذي اقتصرت مهمتهم وللأسف على الاحتفاظ بالمغزل في بيوت الجدات القديمة، وها نحن اليوم نحنّْ إلى تلك الأيام الذي لم يبقَ منها سوى صور ذكرياتها المْحتفظ بها في خزائن الماضي".

تقول "مقلد ": "علمتني أمي منذ صغري مهارة فن الغزل وكيفية مسك المغزل، حتى بات جزءاً من حياتنا اليومية، واليوم نفتقد تلك الأيادي الماهرة التي نسجت خيوطاً صوفية أسست لصناعة السجاد اليدوي والتي أصبحت هي الأخرى في طريقها إلى الاندثار".

الحنين إلى الماضي

بدوره يقول "أحمد ذياب": "ما زال شريط تلك الأيام بذكرياتها يسكن قلبي ويستوطن ذاكرتي، فصورة أمي وهي تمسك مغزلها الخشبي، معلنة بدء رحلتها المهنية بغزل الأصواف، كل ذلك لا زال ماثلاً في ذاكرتي حتى الآن، والمثير للدهشة هو كيف استطاعت تلك العجوز السبعينية وعلى ضوء " الكاز" أو " الفانوس" حينها وبواسطة تلك الآلة الخشبية الصغيرة، تحويل الأصواف الناعمة " الهشة" إلى خيوط متينة، لتستخدم فيما بعد بالصناعات النسيجية اليدوية، حيث كان لتلك الأصواف زبائنها من القرى المجاورة، ولاسيما "النساجون" اي الذين يملكون أنوالاً يدوية لصنع السجاد اليدوي".

ويتابع "ذياب" قائلا": "كانت امي وقبل البدء بعملية الغزل تقوم بغسل الصوف جيداً، ومن ثم تجفيفه ونفشه، ثم لفه على اليد بحركة سريعة وسلسة تتحول بعدها إلى كتلة دائرية تشبه "الغيمة" تحيط باليد لتنقلها فيما بعد إلى المغزل، ومن ثم تقوم بتدوير المغزل على ركبتها وبعد حركة أخذ ورد لساعات عدة، تتحول الأصواف إلى خيوط "سدى".

إضاءة وتعريف

الباحث التاريخي "هايل القنطار" يستعرض في حديثه تاريخ هذه المهنة العريقة التي كاد أن يطويها الزمن، ويقول: "لقد لعب المغزل اليدوي دوراً كبيراً في تبدل حياة الإنسان ولاسيما في العصور القديمة، حيث بدأت توأمة" المغزل مع صوف الغنم في "السويداء" منذ بداية القرن العشرين، ليذهب به مقتنوه فيما بعد لاستخدامه بغزل شعر الماعز، فمن خيوطه المنسوجة على أيدي أمهاتنا وجداتنا، تمت صناعة بيوت الشعر والبسط والسجاد والألبسة وزينة الخيول والجمال".

هايل القنطار

ويتابع القنطار" بالقول: "المغزل آله بسيطة مكونة من عصا اسطوانية لا يتجاوز سماكتها 30سم مصنوعة من خشب قاس كالبلوط والعوسج, ذات أشكال متعددة "دائرية، نجمية شمسية"، واحياناً تأتي بأشكال هندسية مثل متوازي الأضلاع او شبه منحرف، مثقوبة في وسطها كي تسمح لعصا المغزل بالمرور منها وتثبيتها، تسمى الدرة أو الفلكة قطرها بحدود 12 سم، وفي راس العصا -التي تبرز قليلا عن الفلكة- أداة معدنية معكوفة بحجم المسمار تسمى السنارة وظيفتها تثبيت رأس خيط الغزل المعد للفتل".

سير العمل

ويضيف الباحث: "كانت النسوة وعند البدء بالعمل يأتينّ بالصوف بعد جزه وغسله جيداً وتنشيفه، وتمشيطه بواسطة مشط معدني مثبت أحياناً على قطعة خشبية أو بواسطة المخبط أو القوس الذي يستعمله المنجد ، وبعد الإنتهاء من ذلك يقمنّ بجمع الأصواف المعدة للغزل على شكل كرة تمسك باليد اليسرى ويريط خيط منها برأس السنارة، وتمسك العاملة المغزل باليد اليمنى وتبدأ بلفة باتجاه اليمين، ولكل عاملة طريقتها باللف فمنهن من يلفه وهو معلق بالهواء ومنهن ما تثبته بقدميها، مع مراعاة ان يستمر اللف لجهة اليمين فقط،وكلما أنجزت العاملة خيطاً بطول متر أو أقل تلفه على جسم المغزل، وعندما تصبح "الكبة" المتشكلة على عصا المغزل تعيق العمل يقمنّ بانتزاعها، لتبدأن بصناعة كبة أخرى، فيما تختلف سماكة الخيط حسب نوعية الشيء المراد تصنيعه، فخيط الكنزة غير خيط الجرابات الكفوف، وهذه تختلف عن خيط السجاد، والزينة، فمن يتحكم بسماكة الخيط هو عدد فتلات المغزل".

ويبقى المغزل واحداً من أقدم الأدوات التي استعملت في العصور الغابرة وكان له الفضل فيما وصل إليه الانسان اليوم من تطور في صناعة النسيج.