تعد صناعة النبيذ من أقدم الصناعات التي جرى توثيقها حتى الآن والتي تعود حسب اللقى الأثرية المكتشفة إلى أكثر من 8000 عام، حيث عثر العلماء على جِرار خزفية مزخرفة بعناقيد العنب في "جورجيا"، تحتوي على بقايا مكونات النبيذ، وعثر أيضاً على فخاريات أخرى يعود تاريخها إلى 7000 عام في غربي "إيران" كما ذكر النبيذ في الإنجيل المقدس في أعجوبة "عرس قانا الجليل".

النّبيذ الإيطالي

أما محلياً أيضاً لا تزال صناعة النبيذ من الصناعات المنزلية المتوارث التي تحتفظ بطقوسها رغم تعاقب السنين.

تكمن في ارتفاع سعر العبوات الزجاجية الفارغة بالإضافة إلى ارتفاع أسعار النقل والشحن.. ويعتبر عيدا الميلاد ورأس السنة موسماً أساسياً لبيع معظم الإنتاج ويعد النبيذ منافساً حقيقياً للمنتجات الأجنبية المستوردة من الخارج

"سمعان ديب" 65 عاماً من قرية "حابا" في منطقة "صافيتا" واحد ممن لا يزال يحتفظ بهذه الصناعة، وقد استطاع أن ينشئ معمله الصغير المتخصص بصناعة النبيذ الحلو والمز منذ 12 عاماً، وشرح "لمدونة وطن" طريقة عمله التي دمج فيها الأسلوب القديم مع الحداثة والتطور، بالاستعانة بخبير إيطالي زار مزرعة العنب التي يملكها وأشرف على كل شيء وترك له سر المهنة.

الطريقة التقليدية في دهس العنب

لم يعتمد "ديب" على أصناف العنب المحلية فقط، بل أحضر من إيطاليا "كسح" العنب الخاص بصناعة النبيذ وبأنواع متعددة ذكر لنا منها: "ريبو، اوفا دي ترويا، وميرلو"، وزرعها في مزرعته المخصصة لصناعة نبيذه، وأكد في حديثه على أهمية العناية بدالية العنب منذ زراعتها، والتقيد بمواعيد الحراثة والتقليم ورش المبيدات الحشرية بمواعيدها لتبقى الدالية وعناقيدها بحالة جيدة وتعطي ثماراً عالية الجودة.

الخبرة مع الصّبر

يقول "ديب": «يبدأ العمل من قطاف العنب الناضج وغسله وتجفيفه، وفي مرحلة العصر نضع قاتل الخمائر الضارة، وبعد أسبوع يصفى في خزانات من الستانلس محكمة الإغلاق لمدة عام كامل في درجة حرارة 23 درجة مئوية لحين التخمير، ويترك ثقب صغير في الخزان لخروج الغازات وبعد انتهاء التخمير يعبأ النبيذ في عبوات زجاجية تغلق بسدادة من الفلين».

السيد سمعان ديب

يستعمل "ديب" الخزانات المعدنية للحفظ والخشبية للتعتيق، ويتابع كلامه شارحاً الفرق بين النبيذ الأبيض والأحمر، فالأبيض يستخرج من العنب الأبيض ويحتاج لتخميره خزانات مبردة محفوظة بدرجة حرارة منخفضة، وغالباً يوضع على المائدة بجانب اللحوم البيضاء كالسمك والدجاج، بينما يزداد الطلب على النبيذ الأحمر في المناسبات، بالإضافة إلى أن شريحة كبيرة تفضله بجانب أصناف معينة من الطعام أو حتى من دونها، مع التنويه إلى أن العنب الأحمر القاني هو ما يعطي اللون الخمري للنبيذ من دون استعمال صبغات صناعية.

ويشير "ديب" إلى صعوبة هذا العمل الذي يتطلب الصبر والخبرة والجهد في جميع مراحل التصنيع، بالإضافة إلى رأس مال كبير، ويتأسف لعدم قدرته على توريث هذه المهنة لأولاده الذين يعيشون بالخارج.

وأعرب عن أمله في أن تبقى هذه المهنة متوارثة لجميع الأجيال لأنها جزأ من تاريخنا.

تراث متوارث

"غسان أبو خليل" 55 عاماً ويعمل في صناعة النبيذ منذ 10 أعوام، يقول "لمدونة وطن": «أتعاقد سنوياً مع أحد مزارعي العنب بعد التأكد من جودة مزرعته، فأشتري الكمية المطلوبة لصناعة النبيذ الأحمر والأبيض حسب الطلب، بعد استخراج عصارة العنب نضيف الغلوكوز بدلاً من السكر، قبل أن يتم سكبها في الخزانات أو الغالونات البلاستيكية أو الخشبية للتخمير».

ويؤكد "أبو خليل" أهمية وضع النبيذ الأحمر في غالونات صغيرة، تغلق جيداً حتى تنتفخ، وننتظر حوالي أربعة أشهر لتعود الغالونات إلى شكلها الطبيعي وبالتالي نعلم أن عملية التخمر قد انتهت وتتم التعبئة.

ويضيف "أبو خليل": «لقد أتقنت المهنة وورثتها عن آبائي وأجدادي، الذين حافظوا عليها منذ أكثر من 150 عاماً وأعتزم توريثها لأبنائي من بعدي، ليحافظوا على استمرار هذه الصناعة من الاندثار ولأن لها أيضاً بعداً تراثياً، فأنا أبيع منتجاتي لأصدقائي ولمجموعة من الزبائن وكوني أشتغل بأدوات بدائية، لا أشتري العنب بالأطنان، لأن هذا الكم يحتاج إلى آلات ثقيلة».

وعن الصعوبات يقول: «تكمن في ارتفاع سعر العبوات الزجاجية الفارغة بالإضافة إلى ارتفاع أسعار النقل والشحن.. ويعتبر عيدا الميلاد ورأس السنة موسماً أساسياً لبيع معظم الإنتاج ويعد النبيذ منافساً حقيقياً للمنتجات الأجنبية المستوردة من الخارج».

طقوس غائبة

ربة المنزل "أم عصام" سنديانة، في نهاية عقدها السابع من منطقة "صافيتا"، تستذكر بوجه بشوش ذكريات حفظتها عن صناعة النبيذ المنزلي وتقول: «عندما كنا صغاراً كان الرجال والنسوة يجمعون العنب لصناعة العرق أو النبيذ أو خل العنب، ويبدؤون العمل بأساليب بدائية تختلف عن هذه الأيام، فبعد القطاف والتنظيف تُجمع حبات العنب في حلَة نحاسية أو حديدية كبيرة، وتبدأ النسوة "بهرس" العنب بأقدامهن الحافية ترافقهن الزغاريد والدلعونا كطقس احتفالي يدوم لساعات، وهي عادة سريانية قديمة، ثم يتم جمع العصير في الجرار ليتخمر، وكانت جداتنا تقدم النبيذ بالشتاء لأفراد العائلة، لأنه يرفع من حرارة الجسم أيام البرد القارص ويقوي المناعة، وسابقاً كانت العائلات الميسورة تقدم النبيذ لضيفها المميز وبجانبه صحن من الجوز المقشر، آنذاك كنا نعتبر هذا رفاهية مطلقة، أما في هذه الأوقات فحلت الآلات والمطاحن الحديثة وغابت لمات الفرح وحب العمل وطغى الجانب التجاري المادي».