تميزت مدينة "حلب" خلال حقبة الخمسينيات وما بعدها، بصدور الصحف والمجلات والدوريات وزيادة انتشارها وتوزيعها، والتي كانت تطبع وتوزع على النخب العامة والمثقفة في المقاهي والأسواق العامة والمحلات والعيادات والمؤسسات.

ومع تقدم مناحي الحياة العامة في "سورية" بشكل عام ومدينة "حلب" بشكل خاص، أخذت طرق التوزيع والبيع تتبدل وتتطور تدريجياً، بحيث أصبحت تغطي أغلب المناطق والأحياء، حيث تنوعت طرق التوزيع ما بين البائعين الجوالين الذين حملوا المطبوعات الورقية على أيديهم في وسط الشوارع الرئيسية وأمام ساحة الجامعة والمؤسسات والمراكز الثقافية، لتوزع وتباع بعدها ضمن أكشاك صغيرة توزعت في أغلب الشوارع الرئيسية.

كان يصلنا أكثر من ألف نسخة من الصحف المركزية وتباع خلال ساعة أو ساعتين.. كنت أتمنى لو حافظنا على بقاء كنز الأكشاك الثقافية مع استمرار إصدار الصحف والمجلات، لكن الظروف الراهنة التي مررنا بها من غلاء الأسعار وأمور فنية حالت دون ذلك، ما حولها نحو الإصدارات الكترونية وربما يكون ذلك كحل مؤقت

ذاكرة ثقافيّة

يستعيد "سمير وطفة" 61 عاماً، بعضاً من ذكرياته مع المهنة التي هجرها، ومع تاريخ أكشاك بيع الصحافة الحلبية والتي كانت سائدة حتى وقت قريب.

أقدم بائعي صحف الاكشاك "سمير وطفة" الذي هجر المهنة وتحول لبائع البان و"ماجد بهلوان" تحول لبائع مواد غذائية".

يقول "وطفة": «كان أبي وعمي من أوائل من امتهن بيع الصحف والمجلات بمختلف إصدارتها بمدينة "حلب"، وتعود قصة ممارستهما لهذه المهنة لحقبة الخمسينيات من القرن الماضي، من خلال شغفهما وحبهما للمطالعة والقراءة لأي صحيفة أو مجلة كانت تصدر بالمدينة، ومن هنا جاءتهما فكرة شراء الصحف والمجلات من الموزعين الرئيسيين القادمين من "دمشق"، وحملها على أيديهما وبيعها أمام المقاهي والسينمات والحديقة العامة والقصر العدلي والشوارع الرئيسية بالمدينة، واستمرا على ذلك ما يقارب أربع سنوات، وصارا مشهورين ومعروفين لدى العديد من الأدباء والمهتمين والشعراء، ومن أشهر الصحف التي كانت تصدر في ذلك الوقت أذكر "التربية" و"النذير" و"الشهباء" وكان ذلك في منتصف الستينيات».

للحديث تتمّة

ويتابع "وطفة" حديثه عن تجربة والده وعمه مع كشك بيع الجرائد، ويقول: «مع تطور وتقدم مناحي الحياة عرض عليهما بعض الأصدقاء فكرة استئجار "كشك" أو ما يطلق عليه "براكية" صغيرة تكون كمركز بيع رئيسي لهما في مدخل "حي التلل" وعلى الشارع العام، وبذات الوقت تعطيهما نوعاً من الراحة وتستقطب إليهم القراء، ومع كثرة الإصدارات والمطبوعات المحلية والعربية المتنوعة التي بدأت تنهال عليهما مطلع السبعينيات، بات الكشك واحداً من أهم نقاط البيع في المدينة، وكان يبدأ دوامهما في السابعة صباحاً منتظرين الإصدارات اليومية الواصلة من "دمشق" بحدود الساعة العاشرة، ومع لحظة وصولها ينهال طلب الشراء عليها لدرجة الازدحام، وكل حسب هوايته سواء أكانت أدبية أم ثقافية أم سياسية أم علمية، وأذكر من أهم الصحف التي كانت تصلنا وتلقى الإقبال عليها صحف (تشرين والبعث والثورة والموقف الرياضي والاتحاد والرياضة والأسبوع الرياضي والرياضية)، وأغلب إصدارات الصحف والمجلات المحلية والعربية الثقافية منها والفنية والرياضية والسياسية والأدبية».

أقدم أكشاك الصحافة الحلبية آل وطفة في مدخل التلل.

عسى ولعلَّ

الصحفي "معن الغادري" يقلب صحيفة البعث الأسبوعي كأخر إصدار ورقي حاليا".

ويبين "وطفة" في حديثه لـ"المدونة" كيف كان يعمد والده وعمه إلى جذب القراء من خلال كتابة ملخص بخط يدوي عريض لأهم الأخبار الداخلية للصحيفة، وكان هذا الملخص يعلق بواجهة الكشك، ما يلفت نظر القراء لطلب شراء العدد مباشرة، وقد يكون إعلان مسابقة توظيف أو زيادة راتب أو لقاء فنان أو رياضي وهكذا. ويختم "وطفة" بالقول: «كان يصلنا أكثر من ألف نسخة من الصحف المركزية وتباع خلال ساعة أو ساعتين.. كنت أتمنى لو حافظنا على بقاء كنز الأكشاك الثقافية مع استمرار إصدار الصحف والمجلات، لكن الظروف الراهنة التي مررنا بها من غلاء الأسعار وأمور فنية حالت دون ذلك، ما حولها نحو الإصدارات الكترونية وربما يكون ذلك كحل مؤقت».

صاحبة الجلالة

بدوره يقول الصحفي "معن الغادري" مدير مكتب "دار البعث" بمدينة "حلب": «الصحافة الورقية والكشك توءمان لا ينفصلان عن بعضهما البعض، ولكل منهما نكهته وأهميته، ففي الصحافة الورقية أو "صاحبة الجلالة" تجد كبار النخب والأقلام المتخصصة بكتابة الأبحاث والمقالات المفيدة، عدا عن نشر الأخبار والمستجدات وتفاصيل الحياة اليومية من أفراح وهموم الناس، وتحقيقات علمية وطبية وأدبية ورياضية وفنية في بلدنا والعالم، ونادراً ما كنت ترى رجلاً أو سيدة مسافرة إلا وبيدهم صحيفة أو مجلة للقراءة، تكون صديقة أثناء السفر، ففي الصحيفة تقرأ حركة المطارات والقطارات والإعلانات وأسماء العيادات والصيدليات المناوبة والنتائج الرياضية، وحتى حل الكلمات المتقاطعة والتي كانت جزءاً من الثقافة الأدبية، وكذلك كانت الصحف تقوم بنشر أسماء الناجحين بالمرحلة الثانوية».

ويضيف "الغادري": «بالنسبة لي كنت أجلس بالقهوة لساعات طويلة انتظر وصول الصحف اليومية أمام الأكشاك التي أرتادها كعادة يومية لا يمكن الاستغناء عنها، وفي مقتبل العمر وعملي بمهنة الصحافة كنت أقلب صفحات "جريدة البعث" بحثاً عن موادي المنشورة التي كنت أرسلها..

عملت بالصحافة الورقية لمدة سبعة وثلاثين عاماً، ولم أشعر بالملل ولو للحظة واحدة، وفي عام 2017 أصدرنا صحيفة "الشهباء" الحلبية، واستمرت لمدة ثلاث سنوات حيث تركت بصمتها في الساحة الإعلامية بما طرحته من قضايا وهموم جريئة وتفاعل، قبل أن تتوقف عن الصدور شأنها شأن باقي الصحف الأخرى للأسباب المعروفة».

التّحوّل الإعلاميّ

ويشير "الغادري" إلى أنه جرى مؤخراً الاعتماد على الصحافة الإلكترونية لأسباب اقتصادية وفنية نتيجة غلاء أسعار المواد الأولية والخسائر التي تتكبدها الصحف، لكنها ليست البديل الناجح للصحافة الورقية، فرغم سرعتها بنشر الأخبار والصور وأهم الأحداث، إلا أن بعض أخبارها تفتقد المصداقية، ويصعب حفظها وتوثيقها مع مرور الأيام، على عكس الصحافة الورقية التي تبقى أرثاً موثوقاً مدى الحياة يمكن الرجوع إليه في أي لحظة.

اندثار العائلة

أما "ماجد بهلوان" 57 عاماً يقول: «عمل والدي بكشك الصحافة منذ عام 1972 وحتى عام 2016، كان عمله يبدأ في الساعة الثامنة ويغلق في الحادية عشر ليلاً، وقد اكتسب الكشك الذي كان يملكه أهمية لكونه يقع أمام مشفى الرازي تماماً، وعليه حركة بيع لا تهدأ، وكنا نبيع كافة الصحف والمجلات المحلية والعربية وحتى العالمية، ونتيجة موقعنا المهم كان أغلب رواد والدي من القضاة والأدباء والرياضين وطلاب الجامعات وأطباء مشفى الرازي، ونادراً ما كان يدخل طبيب إلى المشفى إلا وبيده صحيفة أو مجلة حسبما يهوى، ولازلت أذكر أهم الموزعين لأكشاك الصحافة بمدينة "حلب" وهم "الكيالي والوهبي والنفاخ والقرنة وأبو عصام حمد"، وأخيراً "أبو كارو قسيس"، وفي نهاية كل أسبوع من يوم الخميس كان يطلب مني والدي تحضير وتوضيب الصحف والمجلات غير المباعة لتسليمها للوكيل وتسمى مرتجعاً مع تصفية الحساب».

ويوضح "بهلوان" كيف انتشرت هذه الأكشاك انتشرت بأغلب أحياء المدينة ووصلت لمختلف الأحياء البعيدة، وتميز أصحابها بالأمانة وفي التقيد بالسعر الرسمي المعلن على كل طبعة.

ويختم بالقول: «للأسف في نهاية عام 2000 وبعد حملة مجلس المدينة على الأكشاك تم إقفال كشك والدي وترحيله لسوق باب جنين وركنه بجانب سوق الخضار بلا فائدة، حزيناً وفاقداً هويته الثقافية التي صبغ بها لمدة تزيد على 30 عاماً، ومعه اختفت الصحافة الورقية التي كانت تسمى كنز "حلب" الثقافي وتحولت للصحافة الإلكترونية».

تم إجراء اللقاءات والتصوير مع أصحاب الأكشاك بحي الجميلية وفيصل بتاريخ التاسع والعاشر من شهر كانون الأول 2022.