اثنان وتسعون عاماً ولا تزال رائحة مكسرات محمصة "الحصباني" تعبق داخل سوق بلدة "ملح" الأثري، وإن غابت وجوه من أتاها قاصداً شراء منتجاتها، إلا أن المحمصة ما زالت حاضرة، لم تغب منتجاتها يوماً عن بيوت أهالي البلدة، والقرى المجاورة لها، حيث ذكريات الماضي الجميل ما تزال تعزف على أوتار الحاضر.

الذّاكرة المتجدّدة

من يزور سوق "ملح" الأثري، لا يمكنه مغادرته قبل أن يُعرّج على محمصة "الحصباني"، ليملأ من مكسراتها سلته الشرائية، تلك المحمصة المؤرخ شهادة ميلادها عام 1930، ورغم عمرها الزمني هذا، فما زالت الحياة تنبض بشرايينها، تعكس إرادة العمل والإصرار على الاستمرار والنجاح.

بالرغم من عدم تبدل مكان تلك المحمصة التي ما زالت تعيش في الذاكرة، إلا أن طريقة العمل سارت نحو الحداثة، من خلال تطوير الأدوات المستخدمة بالعمل وتحويلها لتشتغل على الكهرباء، ولتبقى نكهة ورائحة منتجاتها المحمصة والطازجة تشد وتجذب زبائنها وروادها إليها، ولا يزال الإقبال عليها كبيراً

يقول مالك المحمصة "تيسير الحصباني "لمدونة وطنeSYria ": «لم تفارق المحمصة المنطقة وكانت مقصداً لمناسباتهم الجميلة منذ أن أبصرت نور الولادة التشغيلية، التي انطلقت بداية من بيوت الأهل، بأدوات بدائية وبسيطة، ليستقر بها المكان في نهاية المطاف في سوق "ملح" الأثري الجامع لأكثر من عشرين محلاً تجارياً، ولتبقى المحمصة التي اشتم رائحة تحميص "مكسراتها" وتذوق منتجها جيل الأربعينيات والخمسينيات، وكانت العلامة الفارقة في ذلك السوق».

المحمصة من الداخل

ويتابع بالقول: «بالرغم من عدم تبدل مكان تلك المحمصة التي ما زالت تعيش في الذاكرة، إلا أن طريقة العمل سارت نحو الحداثة، من خلال تطوير الأدوات المستخدمة بالعمل وتحويلها لتشتغل على الكهرباء، ولتبقى نكهة ورائحة منتجاتها المحمصة والطازجة تشد وتجذب زبائنها وروادها إليها، ولا يزال الإقبال عليها كبيراً».

وعن آلية عمل المحمصة، يبين صاحبها أنها تطور دائم، فبعد أن كان العمل يتم يدوياً على الصاج، تحول إلى الحراقات العاملة على المازوت، وأصبح حالياً على الكهرباء، وكله ترافق مع زيادة الطلب وبالتالي ارتفاع حجم العمل وكمية الإنتاج، إضافة إلى تنوعه ليشمل منتجات القمح والحبوب الأخرى، وتشتهر المحمصة بإنتاج الحمص "القضامة" لكونه يزرع بكميات كبيرة في أراضي المحافظة.

المحمصة من الخارج

علامة فارقة

تيسير الحصباني مالك المحمصة

لا تزال محمصة "الحصباني" تُشكل الذاكرة الحية لأهالي منطقة "مَلح" وكل جوارها، فمكسراتها كانت ولا زالت الزائر الدائم لبيوت الأهالي، وعنها تحدث أحد زبائنها "أنور الأطرش" قائلاً: «تعد المحمصة من أقدم وأعرق المحامص على ساحة المحافظة، حتى أصبحت معلماً من معالم سوق "ملح" الأثري، ومقصداً للراغبين بشراء المكسرات، والتي لا يحلو مذاقها إلا من تلك المحمصة، فالكثير من زبائنها، ولاسيما أولئك الذين سار قطار أعمارهم، يأتون بأحفادهم إلى باب المحمصة ليقصوا عليهم ذكريات أيام زمان، وكيف كانت طريقة التحميص قديماً تُشغل بأدوات يدوية بسيطة، ولتتطور فيما بعد من خلال استقدام القائمين عليها أدوات حديثة، وكيف كانوا يشترون البزر الساخن منها، وهي التي اشتهرت بتحميص البزر والقضامة التي لا مثيل لها بالنوعية المذاق والشهي».

ويضيف: «من يدخل محمصة الحصباني حالياً تعود به الذاكرة إلى الوراء عشرات السنين، كيف كان الأهالي يتوافدون، ولاسيما أيام الأعياد إلى تلك المحمصة لشراء ما يحتاجونه من المكسرات والقضامة، لتميزها بإنتاجها الساخن والطازج، فأيام زمان كانت المواد المحمصة زهيدة الثمن من بزر وفستق وقضامة، لذلك كانت بيوت الأهالي لا تخلو منها صيفاً وشتاءً، أما الآن وبعد أن حلّقت الأسعار وتكاليف مستلزمات الإنتاج تراجع شراؤها عما كان عليه سابقاً».

مهنة متوارثة

وعن طريقة بيع منتجاتها يوضح صاحب المحمصة "تيسير الحصباني" أن للمحمصة سمعة طيبة وشهرة واسعة تجاوزت حدود السوق والمنطقة، ولا تعتمد المحمصة حالياً على زبائن السوق فقط وإنما يتم بيع منتجاتها المعروفة في كافة أسواق ومحال المحافظة، عن طريق معتمدين وموزعين حصريين، إضافة الى المناطق المجاورة في محافظة "ريف دمشق"، حيث يجري العمل بشكل دائم على تلبية رغبات وطلبات الزبائن.

ويؤكد "حسن الحصباني" أن المحمصة لم تغلق أبوابها طوال 92 عاماً إلا ما ندر، فهي كانت وما زالت وجهةً لمن أتاها قاصداً مكسراتها، وبالرغم من تطور الأدوات المستخدمة في عملية التحميص، إلا أن طعمَ مذاقها لم يتبدل، فسر نجاح أي عمل أو مهنة هو في دوام توارثها جيلاً بعد جيل، على أن يكون التوارث من العائلة نفسها، وللأولاد والأحفاد، مع الاستمرار بمتابعة العمل وعدم تركه لمن لا يملك خبرة بالعمل، لذلك بقيت المحمصة محافظة على إرث الآباء والأجداد، فرائحة مكسراتها التي عبقت بالمكان منذ أكثر من تسعين عاماً، ما زالت عالقة بالمكان ليشمها كل من جاء السوق قاصداً بضاعتها.