عن عمر أربعة وثمانين عاماً، وفي نهاية شهر تشرين الأول الماضي، رحل الدكتور الجامعي والأديب المعروف "فؤاد المرعي"، بعد مسيرة طويلة عامرة وزاخرة بالعلم والمعرفة قضاها في التدريس والترجمة والتأليف والإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه، وهو الذي ذُكر اسمه في الموسوعة التاريخية لأعلام "حلب"، وضمن التاريخ السوري المعاصر معلماً وأكاديمياً وناقداً ومترجماً وباحثاً جمالياً.

اشتهر الدكتور "مرعي" خلال مسيرته العلمية بمحاكاة الحياة بجمال متناغم مع مفهومه للجمال اللغوي والحياتي معاً، وكذلك بتشجيع طلابه على خلق ثقافة الحوار واختلاف الرأي في القضايا النقدية والأدبية التي كان يثيرها.

كانت علاقة الراحل "المرعي" بزملائه مميزة فلم يحدث أن كان في مكتبه وحده، إذ إنك كلما جئته وجدته يناقش طالباً أو زميلاً، بالإضافة إلى الاستضافة الكريمة من قبله لكل من جاءه، فلا يمكن أن يلقاك إلا ويقف مرحباً بك، وفي معظم الأوقات كان مكتبه يغص بالمحبّين من الطلاب والأساتذة والأصدقاء معاً، ولم يكن للمختلف عنه في الرأي أن يجافيه بل كان يرحب به بعيداً عن أي اختلاف أو تعارض معه

سيرة مُشرقة

ولد الفقيد عام 1938 في بلدة "تلكلخ" القريبة من مدينة "حمص"، وتنقل بين عدة مدن سورية، مُكرّساً حياته للتدريس والنقد والبحث الجمالي والترجمة الروسية والإشراف على كم كبير من رسائل الدراسات العليا.

مؤلفات كثيرة قام الراحل "فؤاد المرعي " بترجمتها من الأدب الروسي للغة العربية.

بدأ الفقيد بعد نيله الشهادة الثانوية حياته العملية معلماً في مدينة "دير الزور"، ثم أوفد بعدها إلى "موسكو" لدراسة الأدب الروسي، وهناك حصل على إجازة في اللغة الروسية وآدابها من جامعة "لومونوسوف" عام 1964، ثم نال الدبلوم من الجامعة نفسها عن أطروحة (المرأة في المجتمع الأبلوموفيين)، وتناول فيها صور المرأة في أعمال الروائيين الروس في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

تابع الراحل مسيرته العلمية في تصاعد ملفت، وفي عام 1973 ومن جامعته السابقة نفسها نال شهادة الدكتوراه اختصاص النقد الأدبي الروسي عن أطروحته تصنيف الأدب الروسي في القرن التاسع عشر في أعمال الديمقراطيين الروس.

الدكتور الراحل "فؤاد المرعي " بأخر أيامه قبل رحيله"

الجامعة والترجمة

شهادات بحق الراحل من الدكاترة "فايز الداية وخالد أعرج والدكتوراه بتول دراو"

بعد أن أنهى الفقيد دراساته العليا في "موسكو"، عاد لأرض الوطن في بداية عام 1976 للتدريس في كلية الآداب بجامعة "حلب" قسم اللغة العربية، وعهد إليه حينها بمنصب النائب العلمي بالكلية لعدة دورات، وخلال ذلك قام بالإشراف على 26 رسالة ماجستير، وعشر أطروحات دكتوراه، ونشر عدة أبحاث ودراسات نقدية أدبية في مجلة "بحوث جامعة حلب".

كما شارك في حضور علمي كثيف للمؤتمرات والندوات والملتقيات، ومنها الملتقى الثاني للشعر العربي القديم في جامعة "كمبردج" في عام 1985، وشارك في مؤتمر بحث ملامح البطولة في الشعر العربي قبل الإسلام، وفي مؤتمر الرابطة العربية للأدب المقارن في جامعة "دمشق" عام 1986، وفي مؤتمر النقد الأدبي الثاني والثالث في "جامعة اليرموك" بـ"الأردن" عامي 1988-1989، وأوفد إلى "الاتحاد السوفييتي" السابق في مهمة بحث علمي عام 1981.

ثم ترجم الفقيد عن اللغة الروسية عشرات الكتب، ومن أهمها "الجريمة والعقاب" للمؤلف الروسي "دوستويفسكي"، وكذلك ترجم أطروحة الدكتوراه للمخرج السوري الراحل "فواز الساجر" "ستانسلافسكي" والمسرح القومي، وترجم رواية الحريقة للمؤلفة الروسية "مارينا ستيبانوفا".

شهادات

"الدكتور فايز الداية" من كلية الآداب جامعة "حلب" يقول: «شكّل الراحل "فؤاد المرعي" علامة فارقة في سيرته المعرفية والثقافية في "سورية" والوطن العربي، سواء في أفق العمل الأكاديمي أو في المجال الثقافي والفني، وكذلك في إطار العلاقات الإنسانية وتفاعل الأجيال في المسيرة الحضارية، وكان قد درس في "موسكو" حيث أنجز المرحلة الجامعية ثم التخصصية في الأدب الروسي والنقدي، وعمل على إطلاق مشروع في حقل الدراسات الأدبية والنقدية بتأسيس دراسات جمالية للأدب بعد أن كانت محصورة في الغالب في أقسام الفلسفة، وتتابعت مؤلفاته في هذا المجال، ومن جهة أخرى قام الراحل بجهد فعال عبر ترجماته للفكر الاشتراكي منذ أواخر ستينيات القرن العشرين، وتابع في السنوات القريبة ترجمة مجموعة من الروايات الروسية المعاصرة، ما أتاح رؤية واضحة لما قدمه الأدباء الروس والفضاءات التي جالوا فيها».

ويشير "البداية" إلى جهود الراحل في التدريس وقد فتح لطلبته آفاقاً في الأدب العربي الحديث ونظرية الأدب، إضافة إلى مشاركته لسنوات في إدارة كلية الآداب بجامعة "حلب"، واستطاع أن يكون أباً في الفكر والفن لأجيال جامعية وفي الساحة الأدبية، وستظل أعماله منارة متجددة العطاء وهي الذكر الباقي بعد غيابه.

لغة الحوار

بدورها تقول طالبة الدكتوراه "بتول دراو": «عرفت أستاذي الدكتور "فؤاد المرعي" رحمه الله في السنة الرابعة، حيث كان علينا أن ندرس مادة علم الجمال، تلك المادة التي كانت بسبب إصراره على وجودها، وقد أثبتت الدراسات النقدية الحديثة أهمية ذلك، وكان لمحاضراته رونق العلاقة الجميلة بين أستاذ محب للعلم و لتقديمه وشرحه وإيصاله لطلابه، وبين طلاب رأوا فيه شخصية هادئة، وعالمة، ومثقفة إلى أبعد الحدود، ومن ثم توطدت تلك العلاقة في مرحلة الدراسات العليا، حيث كان الإلحاح على القراءة بأوسع ما تستطيعه مداركنا، وبأشمل ما يمكن أن نبلغه، وبعدها أن نفكر فيما نقرأ ونتحاور، إذ لم يكن الراحل في محاضراته، إلا منتظراً أسئلة منا نحن الطلاب ولذلك ترتكز محاضراته في جزء كبير منها على الحوار، وبعدها تأتي مرحلة البحث والتدقيق والمتابعة وإعادة الحوار والنقاش مرة تلو الأخرى.. وهكذا كان له الدور الأكبر في بناء عقول تسعى نحو المعرفة والاكتشاف، بل تسعى نحو متابعة التأسيس والاستمرار فيما كان بدأه.. وكان لإشرافه علي في مرحلة رسالة الماجستير دور كبير في تعميق قراءاتي وإغنائها وما زالت مستمرة».

وعن علاقته بطلابه وزملائه تقول "دراو" : «كانت علاقة الراحل "المرعي" بزملائه مميزة فلم يحدث أن كان في مكتبه وحده، إذ إنك كلما جئته وجدته يناقش طالباً أو زميلاً، بالإضافة إلى الاستضافة الكريمة من قبله لكل من جاءه، فلا يمكن أن يلقاك إلا ويقف مرحباً بك، وفي معظم الأوقات كان مكتبه يغص بالمحبّين من الطلاب والأساتذة والأصدقاء معاً، ولم يكن للمختلف عنه في الرأي أن يجافيه بل كان يرحب به بعيداً عن أي اختلاف أو تعارض معه».

رجل العلم والأدب

الدكتور "خالد أعرج" يقول: «يعد "الدكتور فؤاد المرعي" رحمه الله أحد أهم أعمدة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، بما يتسم به من علمية ووطنية وروح أبوية متفائلة، وهو يتمتع بعلاقات طيبة مع الوسط الثقافي.. رافقنا مع مسيرتنا العلمية في المرحلة الجامعية الأولى ومرحلتي الماجستير والدكتوراه، وكان في كل هذه المراحل رجل العلم والأدب ورجل المواقف الإنسانية الذي يعزز في طلابه الطموح العلمي والهاجس الوطني بابتسامته المعهودة وروحه السمحة، وقد أشرف على عشرات رسائل الماجستير والدكتوراه بموضوعات علمية تنطلق من حاجات المجتمع في النهوض والتحديث، وكان رحمه الله يطالب طلابه دائماً بالعلمية والوعي الوطني والتفاؤل، ويكرس جل وقته لتعزيز هذه التصورات بين أصدقائه وزملائه أيضاً، وفي يوم وفاته حزنت أروقة الكلية وقاعاتها الدراسية لغيابه وفجع أصدقاؤه ومحبوه وطلابه بفقده، فلروحه الرحمة والسلام».

الفقيد في سطور

الدكتور "فؤاد المرعي" من مواليد مدينة "تلكلخ" 1938, نال مرتبة أستاذ مساعد عام 1983، ولقب أستاذاً عام 1989, أحيل للتقاعد في عام 2003، وتم التمديد له بالكلية حتى تاريخ انقطاعه بالشهر التاسع من عام 2013.

رحل في 31 من شهر تشرين الأول الماضي في مدينة "اللاذقية".

للفقيد عدة مؤلفات من أهمها كتاب "مبادئ النقد ونظرية الأدب" في عام 1990، دراسات في الحضارة العربية والإسلامية ونظرية الشعر في الأدب الأوروبي القديم، وبحوث نظرية في الأدب والفن ثم المدخل إلى الآداب الأوروبية في 1980، وتاريخ الأدب الحديث- الرواية المسرحية في عام 1982.

تم إجراء اللقاءات بتاريخ السادس من شهر تشرين الثاني بكلية الآداب في "جامعة حلب".