تعد مهنة الأشغال اليدوية من أصعب المهن التراثية لما تتطلبه من وقت وجهد وتركيز، تبدأ بالهواية لتعكس هوية صانعها ثم تتحول إلى مصدر عمل ورزق للعاملين بهذا الكار، الذي انتشر في الأسواق القديمة كثيراً كسوق "الحميدية" في "دمشق"، وأسواق المدينة و"خان الشونة والتلل" بمدينة "حلب".

جمال وتميّز

تعد الأشغال اليدوية مهنة بارعة تحتاج إلى الهدوء والتركيز والتجديد، واشتهرت بها أسواق مدينة "حلب" القديمة، وتم تصدير منتجاتها لأسواق المدن الأخرى وحتى للدول العربية المجاورة، وتميزت أعمال صنّاعها بجودتها وجمالها وتقانتها.

بدأت بتعلم الأشغال اليدوية من المدرسة الابتدائية وأحببتها كثيراً، فهذه الأعمال جزء مهم من تراثنا الجميل الذي يجب المحافظة عليه وتعليمه لأبنائنا لتبقى مستمرة، ويمكن أن يكون ذلك عبر دورات أو معاهد متخصصة أو عن طريق الجهات المعنية كوزارة الثقافة والمنظمات الشعبية

تقول السيدة "منى خياط" إحدى السيدات المهتمات بالأشغال اليدوية والمعارض التراثية: «إن المشغولات اليدوية تزين واجهات المحال ورفوفها وزواياها، أو من خلال عرضها على البسطات أمام محلاتها بحيث تجذب وتلفت نظر الزبائن بجمالها وشكلها ولونها، وبعد فترة ركود خلال الأزمة المنصرمة، عادت تلك الأعمال والمشغولات اليدوية لتزدهر من جديد، مع دعوة مستثمري الفنادق والمعارض لأصحاب تلك المهن للمشاركة بأعمالهم المتميزة، مشيرة إلى أن ما شجع العاملين على الاستمرار والتجديد هو الإقبال الشديد وإعجاب الزوار الذين يحرصون على اقتناء بعضها وحسب حاجتهم لكل قطعة».

براعة الأشغال اليدوية لدى "مريم وسوف"

حرفة متوارثة

مطرازات أشغال يدوية من أنواع مختلفة.

موقع "مدونة وطن eSyria" زار المعرض الأخير للمشغولات اليدوية الذي أقيم في قاعة "ابن البيطار" في "كلية الطب"، والتقى بعضاً من السيدات العاملات بمهنة الأشغال اليدوية، ومنهم "مريم وسوف" التي تحدثت لـ"مدونة وطن eSyria" بالقول: «تعلمت مهنة الأشغال اليدوية وأنا طالبة في المرحلة الابتدائية على يد والدتي، والتي كانت تتقن هذا الفن التراثي بمهارة، وذاع صيتها في بلدتنا "القنية" بريف "جسر الشغور"، وكانت أدوات الشغل اليدوية لديها مؤلفة من (أسياخ ومخرز ومكوك وكبكوبة صوف وخرز)، وكانت تعمل بها في أغلب أوقاتها وتتفنن في أعمالها، وأهدتني وأنا طالبة فستاناً من شغلها، ومن هنا جاءت رغبتي ومحبتي العميقة لتلك الهواية، وحرصي على تعلمها سواء التطريز على "الكنفا" أو على شغل الأسياخ، وأول عمل لي وتحت أنظار والدتي، كان دواراً لطاولات منزلنا مع لوحات مطبوعة ورسومات قمت بتطريزها، وانتقلت بعدها للشغل على "الإيتامين" عن طريق المخرز والبسمار وكذلك شغل الصوف، وصقلت هوايتي بتعمق أكثر من خلال النوادي الصيفية في كنيسة القرية، ومن بعدها بحصص الأشغال اليدوية بمعهد الصف الخاص بمدينة "حلب"، وانتقلت بعدها للتطريز بالخرز السيلاني».

وتضيف: «برعت بشغل "الكنفا" والتطريز على "القراني والآراتي" للديوانات والقلاطق والطراحات بمخرز الصوف، وبالنسبة لـ"الإيتامين" بشغل المكوك فهو صعب ودقيق ويحتاج مهارة وخبرة وقوة أصابع في شد الخيطان، بينما شغل البسمار يكون على إطار خشبي مستطيل أو مربع حسب الطلب، وهناك شغلنا اليدوي على قماش مخمل مطرز بالخرز أو على لوحة أو تكاية وأقراص تصنع من خرز السيلان الناعم و بإبرة خاصة ويعمل منها قطع للطاولات».

سيدات الأعمال اليدوية مع منسقة معرض الجامعة "منى خياط".

احترافية

وتتابع السيدة "وسوف" بالقول: «في البداية كان عملي بهدف التعلم والهواية مع تقوية هذا الكار الذي أحببته جداً، وكنت أقوم بإهداء أغلب أشغالي للأهل والأصدقاء والمقربين، ومع مرور الوقت تحول شغلي وإنتاجي إلى مصدر دخل ورزق معقول لي ولعائلتي بعد ازدياد الطلب عليه، وشاركت بأكثر من 25 معرضاً بمختلف منتوجات الأشغال اليدوية».

وتشير إلى أن شغل الأعمال اليدوية مهنة تراثية قديمة من تقاليدنا الجميلة، اشتهرت بها كثيراً أسواق "خان الشونة والمدينة والتلل" في مدينة "حلب"، لذا يجب إعادة الألق والجمال والاهتمام لها من جديد، ودعمها وتنشيطها كي لا تموت وتندثر مع ضرورة تعليمها للأجيال الناشئة.

تجارب

بدورها تتحدث السيدة "جيداء أزرق" وهي أم لأربعة أولاد عن تجربتها مع حرفة الأشغال اليدوية وكيف وصلت بها إلى مرحلة الاحتراف، وتقول: «بدأت في مهنة الأشغال اليدوية في عام 2016 بعد استشهاد ابني، وكانت تلك اللحظة نقطة التحول الحقيقي بحياتي، حيث فقدت منزلي وابني ووقعت بضائقة مالية كبرى، وفكرت كثيراً في كيفية تجاوز هذه الظروف الصعبة، وخطرت لي فكرة تعلم الأشغال اليدوية وبدأت بشغل قطع صغيرة منها كالجزادين والإكسسوارات، من بقايا قماش المد العربي، وشاركت فيها بالمعارض والمهرجانات ولاقت القبول والاستحسان، واستمررت بإنتاج تلك القطع مع إعطاء بعض اللمسات الإبداعية، فوجدت شغفي في عمل تلك الأشياء المميزة التي تعيدنا إلى تراثنا الجميل».

وتضيف: «تابعت خطواتي بهذا الكار وقمت بافتتاح ورشة صغيرة، وأشرفت على إدارتها وحققنا إنتاجاً ونجاحاً، وأغلب منتجاتنا هي من بسط المد العربي المشغولة على النول اليدوي أو على الماكينات، وينسج المد بخيوط ومزركشة ومشكلة مثل (الجت والشنايل والاوكروليك)، وينسج في وسطها شكل من الرسومات التراثية القديمة مع ألوان مزخرفة، وأحياناً نواكب الموضة والعصر برسوماتنا كما يتطلبه السوق والزبائن».

معارض داعمة

منسقة أحد المعارض والذي أقيم بـ"جامعة حلب" السيدة "منى خياط" تقول: «الأشغال اليدوية لها خاصية مميزة فألوانها ورسوماتها تُعيدنا إلى التراث الجميل الذي برعنا فيه، وفي مدينة "حلب" اشتهرت الأسواق والمحال القديمة بعرض الكثير من الأشغال اليدوية، وبعد فترة ركود سابقة، حرصنا في الجامعة على التواصل مع بعض العاملات في هذا المجال لعرض منتوجاتهن من الأشغال اليدوية ضمن صالة، مع تقديم كل مستلزمات النجاح لهذا المعرض، ولاقى المعرض إقبالاً وحضوراً ملفتاً وخاصة من الطالبات اللواتي شدهن المعرض وما يقدمه، وخاصة رغبتهن بتعلم طريقة إنجاز الأشغال اليدوية وبعد هذه التجربة الناجحة سوف نستمر بدعوة السيدات في كل مناسبة لعرض أعمالهم الجميلة».

تراث للأجيال

وختام جولة المدونة كان مع "منى لبنيه" معلمة متقاعدة والتي تقول: «بدأت بتعلم الأشغال اليدوية من المدرسة الابتدائية وأحببتها كثيراً، فهذه الأعمال جزء مهم من تراثنا الجميل الذي يجب المحافظة عليه وتعليمه لأبنائنا لتبقى مستمرة، ويمكن أن يكون ذلك عبر دورات أو معاهد متخصصة أو عن طريق الجهات المعنية كوزارة الثقافة والمنظمات الشعبية».

وعن تجربتها تقول: «في البداية شجعتني على ذلك والدتي، وكنت أعمل لبيتي وأولادي وأصدقائي جميع المطرزات على السيخ والجكة والصوف، وأحببت كافة أنواع المشاغل اليدوية، ولكن بعد أن فقدت ابني في الأزمة الأخيرة، وجدت أن العمل هو أفضل طريقة لملء فراغي والهروب من كل ما يعكر صفو حياتي، ورويداً رويداً أتقنت الأشغال اليدوية، إلى أن حانت الفرصة لي مع بعض الصديقات للمشاركة في المعارض، والبداية كانت بمعرض عام 2016، وتابعت المشوار في هذه التجربة، ووجدت نفسي فيها من خلال عرض منتوجاتي اليدوية التي لاقت الثناء بكل المعارض المقامة بالمدينة التي شاركت بها».

تم إجراء اللقاءات والتصوير بتاريخ السابع عشر من شهر تشرين الثاني لعام 2022 في صالة "ابن البيطار" في "جامعة حلب".