توارثت الكنيسة المشرقية الكثير من الطقوس القديمة في أعيادها حتى اليوم، ففي احتفال عيد الصليب يضع الكاهن أمام المذبح عدداً من القرابين و3 كؤوس توزع فيها الحنطة والزيت والنبيذ، دلالة على مباركة خيرات الأرض والصلاة لزيادتها بالإضافة إلى 3 شموع تشير إلى سر الفداء بأقانيمه الثلاثة، أما تطواف الكاهن داخل الكنيسة وخارجها ثلاث مرات فيؤكد أن تضحية المسيح تشمل البشرية كلها في كل زمان ومكان.

طقوس متوارثة

ويتناقل التراث الشعبي رمزية نبات الريحان، ويرويها التقليد الأرثوذكسي بأنه كان ينمو فوق الموضع الذي تم الحفر فيه حيث عُثر على عود الصليب المقدس، كما يتم سلق الحنطة في "دست على الحطب"، فحبة الحنطة تُدفن بالأرض وعند جنيها تخرج بكثرة من التراب ويتم توزيعها على الناس لتأخذ بعداً احتفالياً يمثل عظمة القيامة.

على خطى الجلجلة

من على قمة جبل السن في قرية نبع كركر "بريف صافيتا" الذي يرتفع عن سطح البحر 840 م، جرى الاحتفال بعيد رفع الصليب المقدس، الذي يحتفل به المسيحيون السوريون في 14 أيلول من كل عام، وتحدث المطران ديمتري شربك لمدونة وطن عن رمزية عيد الصليب ومعانيه يقول: "لقد ورد في الإنجيل المقدس جملة "من أراد أن يتبعني فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني"، ما يعني أنه من أراد أن يخلّص نفسه يفقدها، ومن فقد نفسه لأجل الصليب وجدها، مما يشجع الإنسان على الإيمان بقناعة أنه سيكون هناك فرج وانتصار بعد الشدة" .

تقليد سلق الحنطة

المعنى التاريخي

شعائر تاريخية ومباركة الحنطة

يتابع المطران" شربك" حديثه بالقول": "في عام 326 م تم الكشف على الصليب المقدس بجهود القديسة الملكة "هيلانة" أم الإمبراطور "قسطنطين الكبير"، الذي أرسل معها حوالي 3000 جندي، تفرقوا واتفقوا أن من يجد الصليب أولاً يشعل النار على أعلى التلة، وهكذا ولدت واستمرت عادة إضاءة "أبّولة" الصليب في عيده، وبعد عثورهم على الصليب الخشبي وضعوه في "القدس"، ومنذ ذلك التاريخ يتم الاحتفال بعيد الصليب في "سورية وفلسطين" خاصة".

ويضيف المطران "شربك": "بدأ الطقس في بداية القرن الرابع الميلادي ولم يدخله أي تهجين كما حصل في الغرب، فمسيحيو الشرق حافظوا على الشعائر القديمة المتوارثة من الأجداد كطقس إشعال النار على قمم الجبال، وطقس توزيع الحبوب التي تدفن بالأرض وتنمو وهي استعارة عن الصلب والقيامة، فضلاً عن وجود عادة جميلة جداً في المنطقة لم تندثر حتى اليوم، ففي يوم عيد الصليب تصنع النسوة إلى جانب القربانة الكبيرة قرباناً صغيراً على شكل صليب يوضع في علب المؤونة وخابيات الزيت في المنزل، وهو غير ناقل للأمراض، ويهب البركة للمؤونة لتبقى مدة أطول، ومعظمنا سمع من أجداده عن حياة الألفة سابقاً والسخاء في تقديم الطعام حتى لعابر السبيل.

المطران ديمتري شربك

رمزية

يؤكد المطران" شربك" على استعمال مصطلح العيش المشترك وليس التعايش المشترك، "لأننا كمسيحيين شرقيين نعيش بجوار المسلمين ونتشارك معهم الحياة بتفاصيلها، حتى بعد دخول الإسلام إلى البلاد تم خلق جسر بين الجميع، وترسيخ القيم العليا في الأديان كالمسامحة والمحبة والعفو عند المقدرة وغيرها، وجميع هذه القيم سهّلت هذا العيش المشترك فيما بيننا، وبعد تزايد عدد المسلمين في الغرب، تحاول الدول الغربية الاستفادة من خبراتنا في الشرق بدعوتنا إلى مؤتمراتهم لنقل الخبرات والتعرف على النهج الصحي لكيفية العيش المشترك فيما بينهم، وفي النهاية نأمل أن تبقى "سورية" مكللة بالفكر والعقل السليمين ونبذ التعصب الذي نعده خارج جوهر الأديان، و"سورية" هنا جزء من رمزية عيد الصليب هذه".

يستحق العناء

في السياق نفسه أشار الدكتور "الياس ابراهيم" الذي حمل فأسه وشارك الشباب بالعمل بوسائل بسيطة وبإمكانيات محدودة، إلى أن الإيمان بجوهر التضحية على الصليب والمشاركة بآلامه تستحق هذا التعب، وتحفز المحافظة على التقليد المتوارث في الطقوس والعادات، لأن مجتمعنا بحاجة إلى استنهاض الماضي الطيب للخروج من السطحية والغوغائية التي تجتاحه.

أما "أم آرام" وهي سيدة في العقد السادس من العمر، فتعد أنها قامت بمسير الآلام رغم مرضها للوصول إلى قمة الجبل تحمل معها القربان الذي صنعته في المنزل، وتعده من الطقوس التي لا تندثر، وترى أن وجود الأطفال والشباب هو مؤشر تربوي صحيّ ربما يغير ما وصل إليه المجتمع.

وفي دردشة مع بعض الأطفال تلتمس في الأجوبة قاسماً مشتركاً هو فطرة الإيمان بجوهر هذا العيد المبني على التضحية وإعجابهم بالطقوس الغريبة كالتطواف وسلق الحنطة وإشعال النار.

تجدر الإشارة إلى العمل الجبار الذي قام به الأب "فادي سلوم" كاهن الرعية بالتعاون مع شباب قرية" نبع كركر" الغيورين، بتعبيد قسم من الطريق الصخرية الوعرة، لمساعدة المؤمنين في الوصول إلى قمة الجبل للاحتفال بعيد الصليب، ولوعورة الطريق تتوقف السيارات عند نقطة معينة ويُضطر بعدها إلى متابعة السير مشياً على الأقدام.