تعدُّ منطقة "العرقوب" الصناعية الواقعة على سفح جبل "الغزالات" واحدة من أقدم المناطق الصناعية في "حلب" ، إذ يعود بدء وجودها إلى حقبة الثلاثينيات من القرن الماضي، وبنيت داخلها العديد من ورشات الحدادة والخراطة والتسوية ومصانع الآلات الزراعية وحفارات آبار المياه والمضخات، ومنشآت ومعامل للغزل والنسيج والبلاستيك، إضافة لصناعات هندسية وغذائية متنوعة، ويتفق الكل على وجود أفضل الخبرات الصناعية والهندسية في تلك المنطقة، ولعلّ ما يميز العاملين فيها حالة الابتكار والتطوير المستمر لحرفهم وورشاتهم ما جعل أشغالهم ومنتوجاتهم مطلباً للسوق المحلية والخارجية.

جغرافيا وحدود

تقع منطقة "العرقوب الصناعية" في الجهة الشرقية للمدينة، على مساحة شاسعة وتجاور أحياء صناعية وتجارية "الميدان وميسلون والشيخ أبو بكر والشعار والصاخور".

موقع مدوّنة وطن eSyria" زار وجال داخل محلات وورش ومعامل منطقة "العرقوب" الصناعية، واستمع لحديث وذكريات كبار الصناعيين داخل الحي.

آلات تعبئة وتغليف وطحن صناعة منطقة العرقوب

داخل إحدى ورش الخراطة والتسوية يقول الحرفي "مازن دركلت" 47 عاماً: <<كثير من المعامل والمنشآت والورش الصناعية داخل "حي العرقوب" يعود وجودها لأكثر من مئة عام ، وقبلها كانت هناك محلات قليلة محاطة بكروم وأشجار الزيتون والفستق الحلبي، ويعدُّ والدي الحاج "طالب" مع أشقائه "حسن وحسين دركلت" من مؤسسي "منطقة العرقوب" الصناعية، حيث قاموا في عام 1944 بتصنيع أول مضخة مياه عمودية لسحب المياه من الآبار وذلك بعد عدة زيارات قاموا بها للمعامل الصناعية في "فرنسا وإيطاليا"، لمعرفة كيفية تركيب خلطة مادة الكوتشوك المركبة على المضخات، وبعد حصولهم على مقادير الخلطة من مصانع أوروبا، توجهوا للحرفي الحلبي الماهر "حسن كردي" لدراسة تلك الخلطة وإنتاج ما يماثلها محلياً، ومباشرة أبدى الرغبة وطلب منهم مهلة للوصول لمحتويات المادة وتركيبها، وبالفعل نجحت المحاولة، ومن هذا النجاح انطلق العمل بصناعة أول مضخة لسحب المياه من الآبار وطبقت التجربة في منطقة "المطخ"، وعدّ هذا الإنجاز في وقتها إنجازاً كبيراً في السوق ما شجع باقي الحرفيين لابتكار وتطوير حرفهم محلياً".

ويتابع الحرفي "مازن" حديثه للمدوّنة: "لحي "العرقوب" الصناعي مكانة وأهمية كبرى بسوق العمل، وفي شتى الاختصاصات حيث كان يتم فيه تصليح وتعمير محركات القطارات والبستونات والقمصان، وذاع صيت المنطقة الصناعية واشتهرت بتصنيع المحركات الزراعية والمطاحن، وكانت تأتينا من "العراق" قطع المحركات والآلات للتصليح، أما حرفة الخراطة والتسوية فلها شأن وتميز كبيرين داخل هذا السوق ويشهد الجميع بمهارة أولاد "القصاص" و"الشوا" و"العقاد" وبراعتهم في تطوير حرفتهم بعد استيرادهم لمادة الألمينوم الخام من "روسيا">>.

صورة عامة لحي العرقوب الصناعي

روّاد الصناعة

صناعة ملحقات الجرارات الزراعية من أهم أشغال منطقة العرقوب الصناعية

يروي صناعيو المنطقة أنهم أول من اهتم بصناعة آلات الأغذية الخفيفة بالعالم، ونجحت محاولتهم ولاقت الإقبال بالسوق المحلية والعربية، حيث يوجد داخل منطقة "حي العرقوب" الصناعية عشرات المعامل للنسيج والصناعات الغذائية والكونسروة والتغليف والحرف والورش المتعلقة بصناعة المخابز والمطاحن والحبوب وآلات خاصة لتحميص السمسم وصناعة آلات البطاطا "الشيبس".

يقول الحرفي "فادي بولص": <<"العرقوب" منطقة صناعية متكاملة من جميع الحرف والورش الصناعية، وبعمر خمسة عشر عاماً كنت أحضر مع والدي لمحلنا هذا والمختص بصناعة البلاستيك وأبواب الأكورديون، التي تعلمتها من والدي الذي كان يعاملني كبقية العمال داخل المعمل ودون تحيز، حتى أتقنت الحرفة واستلمت المعمل بعد رحيله، وطورنا العمل كثيراً بالاعتماد على الخبرات المحلية التي ترقى بمهارتها إلى كفاءات ومستويات الخبرات الأجنبية".

أرقام وإحصائيات

تقول الأرقام أنه كان هناك قبل الأزمة الأخيرة ما يقارب ثلاثة آلاف وخمسمئة منشأة داخل المنطقة ما بين مسميات ورشة وحرفة ومعمل صناعي، حيث وفرت مئات فرص العمل للشباب، لكن تضاءل عدد الورش والمعامل كثيراً خلال الأزمة حتى وصل عددها إلى ما يقارب السبعين، ومع عودة الحياة الطبيعية في عام 2018 بدأت المعامل والورش تستعيد عافيتها ونشاطها من جديد، ووصل عددها حالياً إلى 2500 ورشة وحرفة ومعمل، ويشكو أغلبهم من عدم انتظام التيار الكهربائي، وارتفاع أجور شحن موادهم وغلاء المواد الأولية بالسوق المحلية والعالمية، وقلّة اليد العاملة التي لم تعد تهوى تعلم تلك المهن المرهقة والشاقة والتي تحتاج لجهد بدني".

الحرفي "هوفيك كلجيان" المختص بصناعة البلاستيك يقول: <<منذ أكثر من أربعين عاماً وأنا أعمل بحرفتي هذه التي ورثتها وتعلمتها من والدي الذي يعدُّ من مؤسسي "حي العرقوب".. نقوم بإنتاج قطع الشاسيات لنيونات الإنارة بالمنازل والسيارات ومختلف العلب والعبوات البلاستيكية المنزلية، وكل مراحل العمل والإنتاج هي محلية، ويمكن ذكر مهارة "جورج حكيم وشريكه ناظار مرجانيان" بحرفة الخراطة والتسوية وبأنهم أول من اخترع ماكنيات سحب لأشرطة السحب الكهربائية، وكذلك الحرفي "جورج حداد" الذي يتميز بصناعة مطاحن البن".

تعاضد ومساعدة

وختام جولة المدوّنة مع ورشة الحرفي "كريكور" وابنه المهندس "قره بيت فرنيزليان" اللذين تحدثا عن خبرتهما الطويلة منذ الخمسينيات في صناعة الآلات الزراعية من جرارات و(كلفلتورات) وبذارات وحفارات ودقاقات مياه البرم، حيث يتم تصنيعه وانتاجه كما ذكروا بالاعتماد على آلات الخراطة والفرز والمثاقب والديسكات والمقاشط، وكما قال الابن: إن والده هو أول حرفي بمنطقة الشرق الأوسط تميز بصناعة ملحقات الجرارات الزراعية ووصل الطلب عليها من الدول المجاورة كافة.

وختاماً يتحدث الكثير من معلمي وحرفيي "العرقوب" عن حالة التعاضد والمحبة والتكاتف الموجود فيما بينهم، وعلى سبيل المثال بمجرد سماعهم بإفلاس تاجر أو إغلاق محله لأسباب اقتصادية، يسارعون لتقديم المساعدة مقدمين له كل أشكال الدعم المالي والاجتماعي حتى يقف على قدميه ويعود لممارسة مهنته.

تم إجراء اللقاءات والتصوير داخل "حي العرقوب الصناعي" بتاريخ الثامن من شهر أيلول لعام 2022.