بالرغم من التطور التقني والتكنولوجي الذي شهدته حياتنا المعاصرة، يبقى للمهن والحرف اليدوية المجبولة بعرق السواد، الأثر الكبير في المجتمع الذي ينتمي بحبله السري لإرث إنساني عريق، مهن بقي بعضها، فيما يجهد بعضها الآخر ليظل على قيد الحياة بانتظار من ينقذه.

على عرش المهن

وتستحضر الذاكرة الشعبية العديد من المهن التي سادت لعقود طويلة وتربعت فيما مضى على عرش مهن ذلك الزمن، ومنها مهنة الحدادة التي يستعيد أحد شيوخ كارها ذكرياته معها.

يقول "سمير مخول" مواليد 1924 من "صافيتا"، والذي كان يشتغل بحرفة الحدادة العربية :"تعلمت مهنة الحدادة من جدي ووالدي بعمر 11 سنة عاماً، ولأن جلَّ اعتماد المجتمع آنذاك على الزراعة، كان لا بدّ من تأمين مستلزمات الفلاح الزراعية لتساعده على العمل في أرضه، خاصة أثناء "درس الحصاد" حيث يتزايد الطلب على معظم الأدوات الزراعية ويقل الطلب على غيرها نوعاً ما، حتى أن فلاحيّ "حمص" كانوا يأتون إلى "صافيتا" للحصول على بضاعتنا المشهود لها بالقوة و المتانة".

الحداد سمير مخول

أكثر الأدوات طلباً -حسب قوله- كانت المناجل الخاصة بالحصاد ومناجل الحطب وسككك الفلاحة والفرّاعة والسكاكين، وكنا نقوم بتصليح أي قطعة حديدية يجلبها لنا الشخص، والجميل في الأمر أن الحدادين كانوا قادرين على تصنيع أدواتهم التي يستخدمونها في حرفتهم على عكس باقي الحرفيين.

وتألفت أدوات "مخول" من المطرقة والسندان والفحم الحجري والجلخ والإزميل والملقط، حيث تصقل القطعة بدرجة حرارة مرتفعة وتعطى الشكل المطلوب.

يسر وعسر

الأستاذ منذر رمضان

يستهل "مخول" قوله بالإشارة إلى حياة الفلاح في تلك المرحلة، "فقد عاش على مبدأ "خبزنا كفاف يومنا"، ولم تكن النقود في متناول يد الجميع سوى قلة من الناس، لذلك كنا نسجل أسماء الفلاحين في دفتر الديون، وننتظر قدوم موسم الحصاد أو موسم الزيتون ونذهب إليهم لجمع ثمن البضاعة ويتم الدفع بطرق مختلفة، فمنهم من يدفع النقود ومنهم الحنطة والبعض الآخر كان يعطينا زيت الزيتون، وكنا نتصافى بالعدل".

حرف لها تاريخ

مع استنهاض ذاكرة وتاريخ الحرف السورية التقت مدونة وطن الأستاذ "منذر رمضان" عضو مجلس اتحاد الحرفيين في "طرطوس" وأمين سر جمعية الحدادة والميكانيك وخراطة المعادن والألمنيوم، حيث يقول: "لطالما كانت "سورية" وما تزال مهد الحضارات، ومنها انطلقت الحرف والإبداع والابتكار، فهي الأكثر قدماً على وجه الأرض".

ويرى "رمضان" أن العديد من الحرف شهدت تطوراً لافتاً بدءاً من العصر الحجري الوسيط حتى عصرنا الحالي، ولكن لا بدّ من الإشارة إلى تحول بعض الحرف إلى "صناعة" في الحقبات الماضية، باستخدام تقنيات عدت آنذاك متطورة، ومنها كيفية صناعة الأدوات من معدن الحديد ومن ثم ظهرت حرفة الحدادة العربية، وطورت بعض المعدات كالمنجل والمنكوش والفرّاعة وحدوة الخيل وفخاخ الصيد والأقفاص وغيرها، وكان الهدف آنذاك دعم وتطوير طرق الصيد ومواسم الحصاد وبناء المنازل وصنع الأثاث وسواها، ولكن مع مرور الزمن بدأت هذه الحرف تشهد تطوراً مختلفاً وفق الحاجة، وأصبح العديد منها مهدداً بالاندثار، وقد حافظت قلة قليلة على هذه الحرف التي أصبحت من التراث.

ويضيف: "كان لا بدّ من البحث عن سبل الحفاظ عليها ودعم استمرار الحرفيين العاملين بها، فالواقع الاقتصادي يفرض ذاته ولا يمكن لأي تدبير أن يقنع العاملين بها بالاستمرار، ما لم تتم المساهمة في تأمين دخل لهم يمكنهم العيش بالحد الأدنى".

وسائل دعم

"رمضان" يؤكد على استمرار البحث عن سبل ترويجية لإبقاء هذا الموروث مستمراً حتى يومنا هذا، ومن أهم طرق الدعم للعاملين بمهنة الحدادة العربية، تخصيصهم بمقاسم في المناطق الصناعية ولكن بعدد خجول جداً، بالإضافة إلى وجود بعضها في بعض المناطق، وهناك حرف يدوية متعددة استطعنا إنقاذها من الاندثار من خلال إقامة المعارض والدورات التدريبية، وتسليط الضوء عليها من خلال الوسائل الإعلامية المتعددة، ومؤخرا أحدثنا سوقاً لهذه الحرف في مدينة "طرطوس"، ونحن الآن بصدد افتتاح سوق حرف يدوية ومهن تراثية وتقليدية في مدينة "بانياس"، ونأمل أن نتمكن من إحداث أسواق مشابهة في كل المدن والمناطق، ولكن تبقى هناك حرف مهمة مهددة بالاندثار تحتاج لحماية ودعم يفوق قدرتنا كمنظمة، وهي صناعة السفن الخشبية وقوارب الصيد والنزهة في جزيرة أرواد، لقلة عدد العاملين بها ودخول معظمهم العقد الخامس وما فوق، و في حال عدم مراعاة خطر اندثارها وتقديم الدعم والتسهيلات لاستثمار خبرات من يتقنون صناعتها وتعليمها للأجيال، سنكون قد ساهمنا في اندثار حرفة بدأت منها صناعة السفينة الفينيقية الأولى في هذه الجزيرة منذ 2500 عام قبل الميلاد".

خارطة طريق

ويشير الحرفي إلى أنه لو استعرضنا كل هذه التدابير التي أشرنا إليها، فسنرى بأنها غير كافية للوصول إلى بر الأمان لهذه الحرف، كون معظمها حرف متناهية الصغر وتطويرها يحتاج إلى تدابير مختلفة وتشاركية من جميع الجهات المعنية، من وزارات مختصة كالنقل والإدارة المحلية والزراعة والصناعة وغيرها ووحدات إدارية ومنظمات ومديريات السياحة والزراعة، مع توجيه الطلبة المهنيين بالدخول للورش التدريبية النظرية والعملية المكثفة لاكتساب الخبرة للارتقاء بكافة الحرف، وهكذا سيصبح لدينا جيل حرفي أكاديمي يحافظ على موروث الأجداد ويتم دمجه بإعادة البناء والتطوير، ونكون بذلك ساهمنا برسم خارطة طريق وأنشأنا جسراً يمتد من الماضي إلى الحاضر، ونضمن إيصاله إلى المستقبل القريب والبعيد بأمان.