وتعد مدينة "حماة" واحدة من أهم الحواضر التي أنشأت فيها سبل ومناهل المياه، والتي تنوعت بين القديم والأثري والتي لا تزال آثارها باقية، وأيضاً الحديث الذي لا تزال مياهه تتدفق حتى اليوم.

أحواض للمياه

يتحدث مدرس اللغة العربية "عبد القادر بطمان" مواليد 1948، عن تاريخ سبل المياه بـ"حماة" بالقول : <<بدأ إنشاء أحواض وسبل المياه في مدينة "حماة" حسب المصادر التاريخية منذ العصر المملوكي، فالسبيل هو بناء يشبه الجرن الكبير والذي يتغذى بالماء الجاري من الناعورة عن طريق قساطل فخارية مخفية تصب ماءها الدائم من أعلى الحوض وباستمرار بغرض سقاية المارة ودوابهم، وقد يخدم أهل الحي وأصحاب المحلات المجاورة، ويكون الحوض على الغالب مزوداً ببعض المواعين كأطباق لخدمة شرب البهائم، وطاسات تربط بسلاسل لخدمة الناس، وعلى الغالب يكون ارتفاع واجهة الحوض عن الأرض حوالي متر واحد، وإن كان أعلى يزود بمصطبة أو درجات لتسهيل الخدمة، وفي العصور الوسطى كان يتسارع الناس والأمراء لإقامة هذه الأحواض، لأنها من أعظم ما يثاب المرء عليه، وهي صدقة جارية توهب لمتوفى يخص المنشِئ كالأب أو الابن او الزوجة، ونلاحظ بأن معظم هذه الأحواض قريبة من دور العبادة فهي كالحمام ملاصقة للمسجد، وقد تؤدي نفس الغرض وهو الطهارة، وأقدم النماذج المتوفرة عن الأحواض يعود للعهد المملوكي والذي بدأ حوالي عام 656 هجري>>.

تاريخياً

لا تزال العديد من أحواض المياه التي تم بناؤها في العصر المملوكي بـ"حماة" حاضرة حتى الآن ومن هذه الأحواض حسب قول المدرس "بطمان": <<حوض مأمور، وسمي نسبة لأمير "حماة" مأمور، تولى "حماة" عام 783 و784 وتركها ثم عاد لها بعد حجه، وتوفي في بداية منطقة "باب البلد" قرب التربة الشيخية قبالة الجامع الملكي، ويرجح أنه أقيم مكان الحوض صنبور ماء أو قربة لخدمة المارة وما زال الصنبور حتى الآن.. وهناك حوض الدلوك (الدنوك بلفظ العامة)، وقيل كان هذا الحوض خارج سور المدينة في سوق الحطب أو بعد، وقيل في سوق القطن وكلاهما صحيح فالأمكنة تتبدل أسماؤها وهو بجانب المسجد المذكور الدلوك، ويقع أسفل وادي الحوراني، أما حوض العجمي، فقد لقب جامع "علي بن ابي طالب" قديماً بجامع العجمي، الواقع في حي سوق الشجرة ويرجح ان مكان الحوض هو مكان الفيجية التي كانت عند الباب الشمالي للمسجد، ومن ذكرياتي كنا نملأ منها الماء عندما تنقطع الماء في حي "الشيخ عنبر"، وكتب لي أحدهم بأنهم كانوا يضعون طبقاً جانب الفيجية لسقاية دواب المارة">>.

بشار الشمطية يعمل لدى الجمعية العلمية السورية التاريخية

ومن الأحواض التي يستذكرها المدرس "بطمان": <<حوض مكي وسمي حوض القاضي، وقد ذُكر أنه يقع في منطقة "الصفصافة" قرب حمام "القاضي"، والواقع أنه للجنوب من الحمام ضمن قبوة بيت "الشرباتي"، وأذكره تماماً أزيل عام 1981، وهناك حوض "العلا" وسمي حوض "شرارة"، وزعم أنه حوض "أبي العلاء المعري"،

وهو الحوض الوحيد الباقي الآن في المدينة ويقع بين الباب الشرقي لمطعم "سبازيا" اليوم وحمام العثمانية، وهو عبارة عن حوض حجري طوله 140 سنتمترا وارتفاع واجهته 135 سنتمترا، وارتفاع قنطرته 205 سنتيمترات، وعمق المنهل 80 سنتمترا، وقد درست الكتابة على الحوض منذ 4 سنوات وهذا نصها:

بعض صور السبل في حماة

قد بنى في ربا الكبرى سبيلاً يرتجي معظم الثواب المؤيد

يبتغي الأجر والسرور ويرجو المحرر البنا للجنانه المؤيد

الأستاذ عبد القادر بطمان

مذ نشأة في غرة قلت أرخ قاصد حب الخير الحاج أحمد(26 نيسان 2018).

تحفٌ فنيّة

ويضيف "بطمان" : << هناك أيضاً منهل "آل العظم" ويقع بنهاية الطرف الشمالي الخارجي لقصر العظم، ومنهل شارع "أبي الفداء" في حي "الباشورة"، وهما منهلا ماء كل منهما مصلوب على صدر قنطرة من قناطر ناعورة المأمورية، أقيما معاً عام 1920في عهد الدولة السورية الوليدة أيام الملك "فيصل"، والسبيلان يتغذيان من ساقية ناعورة المأمورية، وهما تحفة فنية جميلة متشابهان ومتناظران، وهناك لوحة رخام لكل منهما، فاليمنى تدشن للسبيل والثانية تدشن تاريخ طريق أبي الفداء، ولقد نفذ كل منهل من الحجر الكلسي النقي الصافي الذي يقارب الرخام، ارتفاع الحوض 200 سنتمتر عدا ارتفاع لوحات الرخام، وعمق الحوض 50 سنتمترا والواجهة الأمامية حوالي المتر، ويتموضع على طرف كل سبيل أعمدة تتكرر تحمل تيجان، وفي النهاية قوس من ثلاثة أوتار، ويلاحظ جمالية الأعمدة المحلزنة، وبراويز اللوحات وتنويع الخامات، وقد أُرخ السبيل عام 1399 هجرية، 1920 ميلادي، وقد نفذ أيام "نجيب البرازي" عندما كان رئيساً لبلدية "حماة" وقد كتب على الرخامة اليمنى شعراً:

قل لأبناء السبيل ابتهجوا واشربوا ما قد جرى من السبيل واذكروا

فعل نجيب والذي يفعل الخير له الذكر الجميل

فله أبد ذكر أرخوا ولكم شيد هذا السلسبيل

ويشير "بطمان" إلى وجود العديد من مناهل المياه في المدينة والتي تحول العديد منها إلى طاقة أو نافذة صغيرة غائرة في الجدار، يخرج منها صنبور ماء بارد، وقد ربطت به 0طاسة أو كيل) صغير لشرب المارة أو لغسل وجوههم صيفاً، إضافة إلى الجرار التي تتوزع على أبواب المحلات لسقاية العطشى.

ويضيف: << ما زلت أذكر وأنا صغير وفي سوق جلباب بـ"حماة" كيف كان ينادي السواس على الناس: سبيل ..سبيل.. سبيل يا عطشان.. على روح النبي سبيل)، فالسوس بالمجان وهبه أحدهم للمارة، ورأيت ذات المشهد في "مكة" وفي سوق الليل بالذات، كيف أن السقا حامل الزمزمية (نوع من الجرار)، ينادي أيضاً على ماء زمزم: سبيل, سبيل، ولا عجب فنحن من عاداتنا خدمة المارة وابن السبيل في المدن والأرياف>>.

تبقى الإشارة هنا الى ان المدرس "عبد القادر خالد بطمان" استند في حديثه لعدة مراجع منها: حماة في القرن السادس عشر، و"حماة" في القرن الثامن عشر، وكتابان للراحل "عبد الودود برغوث" ، تاريخ "ابن قاضي شهبه" تحقيق الراحل الدكتور "عدنان درويش"، مجلة العمران حماة 1969، بعض مقالات "بطمان" على صفحة ناشيونال جيوغرافيك.

ذكريات

وعن تاريخ السبل وذكرياتها في "حماة" يقول "بشار الشمطية" العامل لدى الجمعية العلمية التاريخية السورية، إن "حماة" وهي إحدى الحواضر المهمة عبر التاريخ، تزخر بالسبل ومناهل المياه، إذ يندر أن تجد شارعاً أو حياً يخلو من سبيل، فإذا تركنا الأحياء الملاصقة لضفة العاصي، فإننا نجدها بسهولة في الدور والمنازل البعيدة، في حين نجد البحرة الحجرية في العديد من الساحات، كبحرة "باب البلد"، وبحرة "خان رستم باشا"، وبحرة "حارة الجسر" التي كانت مخصصة لإرواء الدواب بسبب وجود سوق لتجارة الخيل والدواب في هذه الحارة، أما داخل الأبنية فهي عديدة كما في المساجد وحمامات السوق والخانات والزوايا والتكايا، لتلبي حاجة الناس ولا سيما أنها تتغذى من النواعير الدائرة باستمرار على نهر العاصي وعلى مدار الساعة.

ويشير "الشمطية" إلى السبيل المتنقل (السقاء)، وهو بائع الماء في الشوارع وللبيوت وهو يحمل تحت إبطه كيساً ضخماً من الجلد يسمى القربة، وهو ذو خرطوم طويل من النحاس أو الخشب يسعى في الأسواق والمقاهي يزودها بالماء وحسب الطلب.

إستثمار بالمياه

بدوره يبين "مرهف السمان" 1956، عضو سابق في مجلس مدينة "حماة"، أن سبل مياه الشرب تنتشر في مدينة "حماة" في الشوارع والأزقة والأسواق، منها قديم اندثر معظمه، والباقي خيري شُيد على نفقة الأهالي، ومنها سبيل باب جامع "المرابط"، سبيل باب جامع الجديد، سبيل "جورة حوا،" سبيل زقاق الشيخ "معروف"، سبيل "الأحدب"، سبيل سوق الحدادين، حوض "الشرابي"، حوض "خان الجمرك"، ضاغط فونط حارة "الجسر"، حوض الشيخ "عبد الرحمن مسعود"، حوض "العبيسين" "الباشورة"، حوض صوي الشرقية، سبيل جامع "الشيرازي"، وغيرها الكثير، لافتاً إلى أن توصيل مياه الشرب إلى الأحياء ضمن مدينة "حماة" جرى في أوائل الخمسينيات بمساهمة من الأهالي ومنحهم أسهم طابو بحق الاستفادة مدى الحياة بكمية متفق عليها ومدفوع ثمنها ربع متر أو نصف متر يومياً تفقد قيمتها عند هدم العقار.

أجري اللقاء في 4 آب 2022.