اشتهر أهالي حلب منذ القدم وحتى الزمن الحالي، بحبهم وعشقهم لفن الديكور من خلال رسمه وحفره وتنفيره على مفروشات غرفهم ومطابخهم، مقتبسين مفردات هذا الفن الجميل من اللوحات الحجرية الأثرية الكثيرة المنحوتة في واجهات الدور العربية القديمة والمساجد والكنائس والقلعة والأحياء والمغاير والأبواب، حيث أضفت تلك الرسومات المحفورة جمالاً آخاذاً على جمال تلك الأماكن.

في أسواق حلب

تبدلت صناعة فن الديكور عبر الأزمنة بين اليدوي المعشق والمحفر والمنفر، سواء على الخشب أم على الحجر، أو من خلال رسمه على القماش كما هو متداول ومشهور في "مصر" و"إيران" وبعض دول المغرب العربي.

من هنا جاءت براعة حرفيي أبناء مدينة "حلب" بديكور الحفر على القطع الخشبية لغرف المنامة والطعام والمطابخ وواجهات وتزيينات أبواب الغرف والمنازل، ويشهد للفنان "سعد غنايمي" براعته بالرسم على قشور الأخشاب ومن بعدها يتم حفر تلك الرسومات، حيث تزين بالعاج والصدف

موقع مدونة وطن "eSyria" جال في أسواق "حلب" القديمة والتقى بعض الحرفيين المهرة في مهنة الديكور، واستمع منهم لتاريخ وحاضر هذا الفن الجميل الذي مارسه الحلبيون منذ القدم وكيف حافظوا عليه رغم قساوة الظروف التي وقفت حائلاً أمام تطويره وتعليمه للأجيال القادمة.

أساسيات الحفر في فن الديكور ."عيسى- حردان- خلدون

أهل الكار حلبية

تزيين الديكور على المفروشات المنزلية

البداية كانت مع المعلم "بدر الدين عيسى" الذي تحدث للمدونة قائلاً: «تعلمت مهنة الحفر والرسم الديكوري في محلنا بساحة "الملح" تحت "القلعة" على يد والدي، منذ أكثر من أربعين عاماً وكان يوجد في هذا الحي خيرة معلمي المهنة، ويعدُّ حرفيو مدينة "حلب" من رواد ممارسي هذه المهنة، حيث برعوا فيها وراجت بضائعهم وأعمالهم في مختلف أسواق المدن السورية الأخرى، واشتهروا بديكور مصانعة غرف النوم والطعام والمفروشات والموبيليا وقطع الأثاث، ومن الأمثلة والنماذج الرائجة في الفترة السابقة وقبل أكثر من خمسة عقود، كأن يشترط أهل العروس على أهل العريس أن يتم تفصيل المفروشات الخشبية لابنتهم المؤلفة من "سكرتون" والتخت والسباعية وتواليت كرسي الغوا والشوفنيره والشوكية و"الكومدينا" والسباعية ذات السبع سحابات من الخشب الزان المحفور والمنفر والمعرق، وبرسومات مزركشة وملونة. وبعد الاتفاق يقوم صاحب الصنعة بعرض عدة نماذج من الرسومات لأهل العروس لاختيار الشكل الذي يرغبونه، ليبدأ بعدها معلم الحرفة بشغل المطلوب منه يدوياً من خلال استخدام أزاميل الحفر المتنوعة على ألواح خشب الزان أو الجوز من رسومات التعريق والأوراق المقرضة أو الورود، أو بعض الآيات القرآنية والكلمات والأسماء، وقد يستغرق هذا العمل المضني منه أكثر من شهر حتى ينتهي منه».

كان زمان

ويضيف المعلم "عيسى": « الأمور الآن تبدلت تماماً، فخشب الزان والجوز غالٍ جداً وغير متوفر بكثرة، وتم الاستعاضة عنه بخشب (mdf) الصناعي أو من الحور الوطني، واغلب الرسومات المنفذة حالياً على ألواح غرف النوم والطعام هي من نموذج الحفر الصيني لحية التنين مع بعض الصمديات والنواعم والزوايا والعمود اللواح، وبعد الانتهاء من الحفر يتم صبغها ودهنها باللكر والسلر، الذي يغطي المسامات والفراغات وتعد تلك الدهانات بمنزلة الغذاء للخشب، وقد تشغل هذه الأعمال إما يدوياً او على ماكينة الحفر، والآن الأسعار تضاعفت كثيراً عن أيام زمان، حيث لم يكن يتجاوز شغل ديكور غرفة النوم من الزان المئة ألف ليرة، أما الآن فالخديث بالملايين وقد لا تكون من خشب الزان، وقد قل الطلب كثيراً على تعلم المهنة لأسباب كثيرة أهمها غلاء المواد الأولية وعزوف الكثير من الشباب على تعلمها لمشقة العمل فيها».

جمال وروعة رسومات فن الديكور على الأبواب

ويشير الحرفي "عيسى" إلى أن أعمال حفر الديكور لم تقتصر على تجهيزات غرف منامة العرسان، بل طلبها الحلبيون لغرف منازلهم ومحلاتهم التجارية ومساجدهم وكنائسهم.

أصل فن الديكور

وبشرح تفصيلي أكثر حول جمال رسومات فن الديكور واستخداماته بمدينة "حلب"، تحدث للمدونة مهندس الديكور "عبد الهادي حردان" قائلاً: « الديكور هو فن قائم بحد ذاته لإرضاء جميع الأذواق بالمجتمع، ويشتغل بمنهجية وفق خطوط فنية جميلة ومتناسقة من حيث اللون والمادة، وهو فرع من فروع الفن العجمي الذي يرسم على الحجر والخشب، وحين حرم الإسلام التصوير، اتجه الفنانون لتجسيد إبداعاتهم من خلال رسم المناظر الطبيعية للأشجار والأنهار والجبال والبيوت، والبداية كانت برسم لوحات الفسيفساء كما هي في "الجامع الأموي الكبير" بمدينة "دمشق"، وجدران ومحلات "سوق الحميدية"، وأهم تلك اللوحات الفسيفسائية "الجنة والنار"، وتم شغلها من أحجار المرمر والغارنيت، وهي مقسمة إلى مربعات صغيرة وأشكال مختلفة لإظهار جمالية وذوق العمل الفني».

وعن مصدر كلمة فسيفساء يقول: « هو فن روماني معروف قبل الإسلام، وكان يركز على رسم الشخصيات البشرية، وحرمه الإسلام وحوله الفنانون لرسم أجواء الطبيعة بمختلف تكويناتها وأشجارها وأنهارها، ومصدر الفن العجمي بزغ في "مصر" بالعهد الفاطمي، وتعدُّ "مصر" هي الرائدة والسباقة على مستوى الوطن العربي والشرق الأوسط بهذا النوع من الفن الذي بدأ يظهر ويرسم على الأقمشة والأخشاب والأحجار، وخلال فترة الاحتلال العثماني لبلاد الشام تم نقل هذا النوع من الفن إلى مدينة "اسطنبول"، وبحكم قرب مدينة "حلب" من "تركيا" انتقل إليها من جديد، ونفذ على أحجار ومزاريب وجدران البيوت الحلبية ومساجد وكنائس المدينة، ثم انتقل ليرسم على الأخشاب بشكل بديع كما هو موجود حتى الآن داخل بيت "غزالة والسيسي ومدرسة سيف الدولة وداخل أحياء البياضة والفرافرة والجديدة"، وتم استخدامه في بيوت الأثرياء، ويقال أنه بعد خمسمئة عام انتقل هذا الفن إلى مدينة "دمشق"، ونفذ بخانات سوق الحميدية وداخل الجامع الأموي"».

دورات تدريبية

ويتابع المهندس "حردان" بالقول: « حرصاً على المحافظة على هذا النوع من الفن النبيل والجميل من الاندثار، قمنا بتدريب الأيدي العاملة على اثنتي عشر حرفة يدوية هي الطرق والضغط على النحاس معاً والحفر على الأخشاب والنول العربي ورسومات الفسيفساء، وتعد كل تلك المهن الجوهر الأساسي لفن الديكور المعشق على الزجاج والموجود في الدور العربية والمساجد والكنائس ».

ويبين "الحردان" أن ما يميز أعمال ورسومات فن الديكور في مدينة "حلب" هي خاصية الحفر النفر اليدوي بواسطة أزاميل خاصة ومحددة على الأخشاب والأحجار، حيث تحتاج لدقة وصبر وجهد بدني يستغرق أياماً طويلة حتى يخرج العمل بمنتهى الجمال، ويتم رشه بخلطة السبيداح والصمغ العربي الساخن للمحافظة على تلك الأعمال، وقد يدوم عمرها مئات السنين، وفي "مصر" نفذ لديهم هذا الفن على القماش"، بينما اشتهرت دول المغرب العربي و"إيران" برسومات الفن القيشاني وأغلبه من الفخار المعالج بالأفران ذات الحرارة العالية، ومن أهم أعمال الديكور الحاضرة منبر "صلاح الدين الأيوبي" بالجامع الكبير ومقام سيدنا "زكريا".

ويختم "الحردان": « من هنا جاءت براعة حرفيي أبناء مدينة "حلب" بديكور الحفر على القطع الخشبية لغرف المنامة والطعام والمطابخ وواجهات وتزيينات أبواب الغرف والمنازل، ويشهد للفنان "سعد غنايمي" براعته بالرسم على قشور الأخشاب ومن بعدها يتم حفر تلك الرسومات، حيث تزين بالعاج والصدف».

براعة فن الديكور

بدوره يقول الباحث التاريخي "أحمد الغريب": « فن الديكور بالأسلوب القديم موجود في كل معالم الواجهات المعمارية وأحياء مدينة "حلب" القديمة، وتعدُّ أشكال الحيوانات المستخدمة على واجهات المعابد والقلاع والقصور والبوابات مكملاً معمارياً لمضامين فكرية وفلسفية، وقد استخدمت هذه الرموز في معظم الحضارات منذ فجر التاريخ ولا سيما على جدران الكهوف برسومات كثيرة للأسد والحصان والتنين والثعابين، ويشهد على ذلك ما تم اكتشافه في معبد الإله "حدد" في "قلعة حلب وإيبلا"، وتميز به أبناء المدينة قبل حقبة من الزمن، وعدوا من الصنعة المهرة في أعمال الديكور من خلال الحفر على الحجر والخشب ونقلوه لداخل مطابخهم وطاولات طعامهم وغرف نومهم وواجهات منازلهم».

الفنان التشكيلي "خلدون الأحمد يقول: « الديكور نوع من أنواع الفن البصري يخدم بالشكل والمظهر جماليات المكان ويعطي مساحات موزعة ضمن حالة تكوين الشكل المراد تنفيذه من توزيع للأعمال الفنية والأشكال الهندسية .. فهناك البساطة بطرح الموضوع من توزيع علاقات بسيطة لكن مدروسة بالشكل والتموضع ، ومهندس الديكور لديه القدرة والنبوغ على توزيع عناصر تشكيلاته وأدواته في المكان المناسب ليخدم جمال المظهر العام ويعطي صورة رائعة للمكان، وفي مدينة "حلب" يمكن أن نرى الكثير من براعة فن الديكور المنقوش على أحجار المعابد والمنازل وواجهات المحلات، من زخرفة وخط عربي وبللور معشق والذي يسمى بالفسيفساء الشرقي الملون داخل البيوت العربية فيعطي المكان جمالاً وسحراً لا مثيل لهما».

تم إجراء اللقاء والتصوير بتاريخ الحادي عشر من شهر حزيران لعام 2022 في أحياء"حلب" القديمة و"محطة بغداد".