تنتهي الحِرف اليدوية عادةً، برحيل آخر العاملين فيها، لكنّ الأمر يختلف، إذا كان مصير الحرفة، مرتبطاً بـ "أسنان" هذا الأخير، والكلام عن صاحبة الثمانين عاماً، الحاجة "شمسة بلال"؛ الوحيدة التي تُتقن اليوم، صناعةً تقليديةً حموية، ورثتها عن أمها ووالدة زوجها، في حياكة وصباغ الثوب الفلكلوري، الواجب توافره في جهاز العروس، والقائم على حرفة "صر القز"، وفي محاولةٍ منها، لإحياء تُراث مدينتها، لبّت دعوةً وُجِهت إليها، لتعليم عددٍ من الراغبات في دمشق.

بدأت الحكاية حين زارت التشكيلية "عفاف النبواني"، محافظة حماة، والتقت "أحمد الدبيك"، تاجرٌ مهتمٌ بالحرفة، أحضر الحاجة إلى خان رستم باشا هناك، لتعريف الزائرات، بحرفةٍ تعلمتها منذ كان عمرها عشرة أعوام، وما زالت تمارسها حتى اليوم، رغم ما تحتاجه من تركيزٍ وصبر. ويبدو أن فكرة اندثار الحرفة، لم تكن مقبولة لدى النبواني، فتواصلت مع الحاجة وكنتها، للتدريب على مهنة "صر القز" في خان أسعد باشا، بإشراف وزارتي السياحة والثقافة، ضماناً لاستمرارية المهنة، ولفت الأنظار إليها من جديد.

تقول النبواني في حديثٍ إلى "مدوّنة وطن": "اخترنا للتعلّم أشخاصاً لديهم معرفة سابقة بالأصبغة والأقمشة والحرير، ومهارات التعامل معها، لأنّ التعاطي مع من لا يعرفون شيئاً عن هذا المجال، سيحتاج جهداً مضاعفاً من الحاجة الكبيرة في السن، إلى جانب اختيار سيدات، يُمكن لهنّ العمل بهذه الحرفة مستقبلاً، لأنهن يمتلكن أصلاً مشاريع خاصة في مهنٍ مُشابهة". وتضيف: لا مكان للملول والفوضوي في هذه الصنعة، أي نقطة في غير مكانها، خطأ، يصعب تلافيه وتمريره.

الحاجة شمسة بلال وكنتها مع المتدربين في خان أسعد باشا

تتضمن حرفة "صر القز" لإنتاج الثوب الفلكلوري الحموي، المشغول على نولٍ يدوي، عدة مراحل، تبدأ كما تعلّمتها النبواني من الحاجة، بتفصيل قطعة القز البيضاء بشكل ثوب، مع "درزات" سوداء حصراً، لتتماشى مع اللون الأسود النهائي، تُصبغ القطعة أولاً بالأصفر، ثم يبدأ تربيط عدة نقاطٍ منها، باستخدام واحدٍ من الأسنان، لمنع الصبغة عنها، بعدها تُصبغ بالأحمر، وتربط نقطٌ ثانية بالتقنية نفسها فوق الأحمر، لاحقاً يُصبغ الثوب كاملاً بالأسود، وفي المرحلة الأخيرة تأتي عملية فك النقاط، التي ستظهر باللونين الأصفر والأحمر على الثوب. تقول النبواني: قطعة القز تسمى "دَرْجة"، والثوب يحتاج سبعة أمتار ونصف المتر منها، عرضها بحدود 40 سم، في حين يتطلب تحضيره شهراً ونصف الشهر، لذلك كانت مراحل العمل قديماً، مُقسّمة بين عدة عائلات، كلٌ منها تقوم بمهمةٍ محددة.

المُشارِكات في ورشة الحاجة، نفذّن مُنتجاتٍ جديدة، يُمكن استخدامها بشكلٍ يومي، على عكس الثوب التقليدي، الذي لم يعد مطلوباً، بسبب غلاء سعره، منها "شالات، بلوزات، علامات تحديد للكتب، أساور، ربطات شعر، إكسسوارات، فولارات"، بالاعتماد على التقنية نفسها، وهنا تقول التشكيلية: "أتمنى أن يكون للحاجة دورات قادمة لتمكين المتعلمات أو تدريب أناسٍ آخرين، وسأكون فخورة إذا ارتديت قطعة من عمل يدي، هذا يحتاج وقتاً وجهداً، أعمل لتحقيقه". بينما تسعى المهندسة "رزان الأسعد"، للاستفادة مما تعلمته، بالتنسيق مع عملها في تدوير الأقمشة المستعملة مع مشروع "خلايا النحل". تقول للمدوّنة: "التنسيق بين الحرفتين، جميل جداً، سيكون لدينا مُنتج غير مسبوق، وسنحافظ على التراث أيضاً، ولا سيما أن التدوير ثقافة سورية، في حين أن الصر حرفة حموية، أسعى للدمج بينهما في مشاريع مستقبلية، منها إدخال قطعة صر ضمن اللوحة القماشية، مشغولة بقماشٍ وصباغٍ مناسبين".

رزان الأسعد أثناء التدريب

التفكير بخطط عمل، للحفاظ على "صر القز"، يستوجب مراعاة خصوصية الحرفة، واستخدام الأسنان فيها، وهو ما حاولت الأسعد التحايل عليه، باللجوء إلى "كماشة" خلال التدريب، لكنه لم يكن جيداً كما تؤكد، إلى جانب قيام الحرفة أصلاً على الحرير، والذي يمر حالياً بظروفٍ صعبة، تستحضر الأسعد شيئاً منها، شاهدته في زيارتها إلى حماة. تشرح: "العناية بالحرير مُلحة جداً، بدءاً من شجر التوت، غذاء دودة القز، أحد الحرفيين اسمه "محمد علي سعود"، حوّل مكان عمله على النول القديم، إلى متحف حرير للزيارة، بعد أن توقف العمل نهائياً، وفي منطقة "دير ماما"، قطع الفلاحون أشجار التوت، وزرعوا مكانها التفاح، كل هذا أضر بالحرير السوري، ومع غلاء سعره، أصبحت الحرف المرتبطة به تراثاً أكثر منها استخداماً وتداولاً".

تتحدث الأسعد عن ضرورة تسويق المنتجات الحريرية، بشكل يُعوض غياب السياح عن الأسواق المحلية، ففي وقتٍ مضى، كان السائح يهتم بالحرير أكثر من المواطن، الذي لن يتمكن من شرائه بسبب غلائه أو عدم احتياجه له، عدا عن كونه يعده رفاهيةً لا مكان لها، لذلك يجب الاهتمام بالمنتجات الأصغر حجماً، ليكون سعرها أرخص، مع قابلية الاستخدام اليومي، بشكلٍ لا يقلل من جماليتها وقيمتها، وهو ما ينطبق على الأثواب الحموية، التي كانت تتوارثها العائلات، لعدة أجيال، دون أن تهترئ أو تتضرر، بسبب جودة خيوطها ومتانتها، إضافةً إلى التعريف بفوائد الحرير للهرمونات والبشرة والشعر، وقدرته العلاجية لعدة أمراض شائعة كالأكزيما و"زنار النار".

التدريب على صر القز