صناعة تجبل من الطبيعة الخام، لتشكل هيكلاً يتقد بنار التاريخ ورائحة حطبه، فتشعر أنك تحن إلى خبز أمك، وتقتسم الرغيف مع الأجداد.

صناعة التنور، هي من أقدم الصناعات التي لا تزال حاضرة حتى هذا اليوم في قرية "حكر الشيخ اسماعيل" في منطقة "صافيتا" وفي منزل السيدة "توفيقة حسن" التي تعلمت صناعة التنور في عشرينيات العمر، ليكون مورد رزق لها و لعائلتها، ورغم تقدمها بالسن، ما زالت تساعد ابنتها "وسام ميهوب" في صناعة التنور الطيني بخبرة السنوات المرسومة على تجاعيد وجهها العميقة.

التنور الطيني

عن طريقة صناعة التنور الطيني تقول السيدة "حسن" : "يجمع التراب الأبيض وبعض من التراب الأحمر ، ليتم خلطهما مع قصاصات العدول (الخاش)، وظيفة العدول مسك وتقوية المواد، مع " الدب ملح " وهو المادة الرئيسية في صناعة التنور ، وتعود تسميته لكثرة وجود الملح فيه، وهو حجر تجده في الطبيعة التي شكلته على مدى سنوات، يطحن على الطاحون (الرحى) ليصبح ناعماً، ثم تنقع كافة هذه المكونات بالماء يوماً كاملاً، و في اليوم الثاني يتم جبلها بالدعس بالقدمين بشكل جيد لتختلط المواد، وبالتالي تصبح جاهزة لصنع شكل التنور النهائي، ويوضع في الشمس و الهواء الطلق لمدة 15 يوما ليجف تماماً ، و هناك مرحلة أخيرة وهي مرحلة الشواء، فبعد أن يجف التنور تماماً، يدهن من الداخل في جميع الاتجاهات بالزيت والملح، ويتم إشعال الحطب فيه ليحترق البدن، ويصبح جاهزاً للاستعمال" .

حجر الدب ملح

حرفة الأمس القريب

تستذكر "حسن" أيام الزمن الجميل، عندما كانت معظم البيوت تعتاش من صناعة التنور الطيني، بسبب الطلب المتزايد ضمن المنطقة وخارجها، وكان سعر التنور الواحد آنذاك 5 ليرات سورية، وتشير إلى مدى إقبال الناس اليوم على شراء التنور بأحجام مختلفة لغرض الرزق، أو للاستعمالات المنزلية، حتى أن البعض كان يشتري التنور لعرضه في حديقة منزله كنوع من الديكور، تعبيراً عن حبه للقديم .

أما اليوم تقول السيدة: " يتراوح سعر التنور بين 150000 إلى 200000 ليرة ، و لإطالة عمره تنصح " حسن " بأن تكون مواده متقنة، وعند التركيب يجب حشو الفراغ بين التنور والمصطبة الإسمنتية بالتراب، ليكون حاجزاً يحميه من العوامل الخارجية.

التنور الطيني بعد الانتهاء من صناعته و مرحلة تجفيفه

مكانة خاصة

برأي " أم غالب " السيدة السبعينية ، أنه حتى اليوم لم تستطع الأفران الحديثة مزاحمة رغيف تنور الحطب ، رغم تزايد عدد الأفران الحديثة التي تقدم الخبز بنكهات مختلفة ، " أم غالب " التي كانت تتقن صنع " الكارة " المحشوة بالصوف التي تغطيها قماشة تساعد السيدة في وضع الرغيف داخل التنور المشتعل.

تقارن " أم غالب " صبحيات النسوة اللواتي يجتمعن لصنع خبز التنور بالعرس ، بنشاط مكلل بالمحبة والتعاون، يغنين الأغاني الشعبية التي كانت سائدة آنذاك من دون ملل، وهنا تتوزع المهام : فاختصاص الرجال جمع الحطب وإشعال التنور ، والنسوة العجن والخبز ، ساعات تبدأ فجراً لتنتهي عند الظهر ، لكنها ساعات خفيفة تنتهي بسرعة لتأخذ النسوة حصتها من الخبز وترحلن، أيام كانت رغم الشقاء أجمل من اليوم فالتنور جزء من الذاكرة التي نريد أن يتوارثها أحفادنا ويحافظوا عليها .

تاريخ صناعة التنور

في هذا السياق يشير الباحث التاريخي " رفيق القحط " إلى أن تنور الطين جزء من التراث الشعبي في "سورية" الطبيعية، والذي يعود للحضارة البابلية والسومرية، هذه الحضارات التي شهدت بدء صناعة التنور ومنها انتشر ، لتلبية احتياجات الإنسان الذي صنع بذكائه أدوات تساعده على تلبية احتياجاته اليومية من الأواني الفخارية والجرار ومستلزمات الحياة كافة، وما نراه في المتاحف خير شاهد على حضارة بلادنا حتى هذا اليوم.

ويضيف "القحط" إنه على الرغم من التقدم التكنولوجي الذي سهل على الإنسان العمل ورفع الإنتاج ، تستميت بعض الصناعات لتستمر كصناعة التنور الطيني، فهي مهنة البسطاء في ضواحي المدن وفي القرى ، وتراث يرفض عشاقه أن يندثر ، ناهيك بطعم خبز التنور المشبع بحطب الأرض.