لا تزال رائحة الدقيق الذي أنتجته المطاحن المائية والتي دارت "رحى" حجارتها البازلتية في مطلع القرن العشرين على أيدي الأباء والأجداد، تعبق بالمكان، كيف لا وقناتها المائية المغذية لها ما زالت تنعش فينا ذكريات نتوق إليها كلما عادت بنا الذاكرة إلى الوراء، ولتبقى هذه المطاحن التي لم يبقَ منها سوى أدواتها ذاكرةً حيّةً للزراعة والمزارعين، وتذكيراً بالماضي الجميل الذي صنعه لنا أباؤنا وأجدادنا.

الحنين إلى الماضي

بعد أن طواها الزمن وأرشفها في سجل ذكرياته، باتت سنابل القمح تواقة لتلك المطاحن المائية التي ولد من رحمها دقيق الخبز، وعن هذه المطاحن تحدث لمدونة وطن eSyria الباحث في شؤون الآثار الدكتور "نشأت كيوان" قائلاً: "لم تكن الولادة البدائية لتلك المطاحن حديثة العهد، فهدير "رحاها" انطلق منذ حوالي الألفي عام، وذلك على أيدي النبطيين والرومان، الذين كانوا السباقين لاستخدام هذه المطاحن، إلا أن الانتشار الأوسع لهذه المطاحن شهدته الأعوام الأولية للقرن العشرين، ولتستمر حتى التسعينيات منه، فحاجة أجدادنا لأس الحياة ألا وهو الخبز دفعهم لتعزيل أراضيهم وتالياً تجهيزها لزراعتها بالقمح، ولتحويل مادة القمح إلى دقيق فلم يكن أمامهم سوى البحث عن هذه الأداة فكانت المطاحن وجهتهم، حيث تعددت أنواعها، ومن المطاحن اليدوية الصغيرة المنزلية كانت البداية، وهذا النوع من المطاحن عبارة عن حجرين دائريين على شكل رحى دائرية الشكل لا يتجاوز قطرها 70 سم، يتم وضعهما فوق بعضهما مع وجود محور للتثبيت في الحجر الأسفل ومقبض للحجر الأعلى للإمساك به وتدوير الرحى، والكثير من حجارتها ما زالت قابعة في مضافات أجدادنا نشتم منها رائحة الماضي العابق بذكرى المتعاقبين على هذه المنطقة".

الماء دواؤها

ويبين "كيوان" أن المطاحن اليدوية التي تعد الزائر الدائم لمعظم منازل جبل العرب، لم تكن الوحيدة المُساهمة في إنتاج الدقيق، فعلى جوانب الأودية بنى أهالي جبل العرب مطاحنهم المائية، التي استخدمت لأكثر من ثمانين عاماً مستفيدين من مياه الأودية الواصلة إلى رحى هذه المطاحن، والتي تعد بمنزلة الغذاء اللازم لتطويرها، وفق نظام هندسي مائي مدروس لتحقيق غاية الطحن، إضافة لوجود بعض المطاحن تدار رحاها الأكبر حجماً خاصة المنزلية أي البعيدة عن مجاري الأودية بوساطة الحيوانات، وهذا النوع لا يرتبط بمواسم محددة، حيث تميزت هذه المطاحن ببنائها المعماري الجميل، وأقنيتها المبنية من الحجارة البازلتية، التي باتت في حالة من الظمأ، ولا سيما بعد أن حلت الجاروشة العاملة على الكهرباء مكان هذه المطاحن.

نشأت كيوان

ويشير "كيوان" إلى أن من أهم المطاحن التي كان لها حضورها في تلك الحقبة الزمنية، المطحنة الواقعة بين قرية "المنيذرة" وبلدة "القريا" والمطحنة الواقعة في قرية "ذكير"، حيث كانت تدار هذه المطاحن بحركة المياه الجارية بشكل متتالٍ لطحن أكبر كمية من الحبوب، وقد عثر على عدد من المطاحن في البيوت السكنية القديمة التي استمر أجدادنا لفترات ليست ببعيدة في استخدامها ويوجد في متحفي "السويداء" و"شهبا" شواهد على هذا النوع من المطاحن.

يقول أحد معاصري هذه المطاحن "رامز مفرج" إن المياه الفصلية الجارية ضمن الأودية استغلها أجدادنا لتكون المحرك الرئيس للمطاحن المائية، والتي شيدت فيما بعد على مجاري هذه الأودية، وهذه المطاحن كانت المؤسس الرئيس للمطاحن الحالية التي تُدار على الكهرباء، فمن منا نحن جيل الأربعينيات لا يتذكر كيف كان أهلنا يتجهزون لمؤونتهم السنوية التي تبدأ مع انتهاء موسم الحصاد، وكيف كانوا يتهيؤون خاصة عند جريان الأودية -عادة تحدث في فصل الربيع نتيجة ذوبان الثلوج- لطحن الأقماح المخزنة لديهم على تلك المطاحن، التي ما زالت بقاياها حاضرة على تلك المجاري، محتفظة بصور الماضي بين دهاليز حجارتها البازلتية وأقنيتها المائية، إلا أن ذكراها وذكرى من وطأ حرمها ما زالت ساكنة في ذاكرتنا.

رحى المطاحن

ويضيف: "المطاحن هي جزء من الحياة الاقتصادية الزراعية التي مارسها سكان منطقة جبل العرب، حيث كانت المجاري المائية الأكثر غزارة في فصلي الشتاء والربيع، وهي الأوفر حظاً في الانتشار على مسارها".

رامز مفرج