المتنقل بين قرى وبلدات ريف محافظة "إدلب" تستوقفه مشاهد تلال من الأقراص قد تمّ ترتيبها على شكل هرم وأخرى تم نشرها على الأرض بقصد التجفيف، هي أقراص "الجلّة " التي تصنع من روث الحيوانات، ثم تجفف تحت أشعة شمس الصيف الحارقة، لتعين المحرومين من وسائل التدفئة الراقية على قهر برد الشتاء، وتساعدهم على طهي طعامهم، فقد باتت تلك الأقراص في هذه الأيام العصيبة حطب الفقراء وتسمى في الريف السوري بـ"الجلّة".

وقود حيوي

إلى جانب أحد المنازل في بلدة "سنجار" في ريف "إدلب" استوقفنا السيارة التي كانت تقلنا في جولة إعلامية في ريف المنطقة، لنسأل عن الطريقة التي يتم فيها تصنيع "الجلّة"، ليأتي الجواب من أحد الأهالي وهو "أحمد الياسين" حيث يقول: "أقراص "الجلّة" يزن الواحد منها ما يقارب 2 كغ، وهي وقود حيوي صديق للبيئة وبديل غير مكلف للطهي والتدفئة، تجهّز من روث المواشي وخاصة الأبقار، أو تجمع جافة جاهزة من البراري في المراعي، وتقوم النساء بجمع هذا الروث وخلطه بالتبن الناتج عن حصاد القمح أو الشعير أو الأعشاب الجافة، وتشكيله على هيئه أقراص أو وضعه في قوالب خشبية مخصصة لهذه الغاية، ومن ثم تنشر في مكان مشمس لتجفيفها لتستخدم فيما بعد كوقود "للتنور" أو لمواقد الطهي كما توضحه الصور المرفقة".

صناعة نسائية

تُستخدم "جلّة الروث" المصنوعة من المنتجات الثانوية لتربية الحيوانات، تقليدياً كوقود في معظم أرياف المحافظات السورية، لطهي الطعام في موقد منزلي يسمى "الدفية"، تصنع يدوياً من قبل نساء القرية ويقدر وزن "جلّة" الروث الواحدة ذات الحجم المتوسط بـ 2 كغ.

تجهيز الموقد بالجلة

تقول "غادة العوض" زوجة "الياسين" : "هذه هي أقراص روث البقر المصبوبة بأيادٍ عارية كما ترى، مع انحناءة لتكون قادرة على البقاء عالقة على الجدران التي تلصق عليها حتى تجف، ويختلف شكل "الجلّة" من منطقة لأخرى".

وتضيف "العوض": "بمجرد تجفيفها يتم وضعها في "قبة" من الطين أو على شكل كومة تتم تغطيتها بقش أو أعشاب يابسة، يمكن رؤية هذه المادة في أجزاء من المناطق الريفية في "سورية"، وإن كان ذلك بأسماء مختلفة، وقد يختلف حجم أقراص "الجلّة" التي يتم استخدامها كوقود حيوي في المقام الأول لسببين: أولاً لسهولة التخلص من روث البقر، فضلاً عن أنها وقود يصنع بسهولة وتكاليف بسيطة".

نشر اقراص الجلة تحت اشعة الشمس

فوائد مشجعة

الجلة لتنور الخبز

يستعرض أحد مربي الأبقار "محمود الموسى" من قرية "المكسر الفوقاني" القريبة من ناحية "أبو الظهور" في ريف "إدلب" الشرقي، فوائد استخدام روث الحيوانات الجاف "الجلّة"، ويقول لــ"مدوّنة وطن": "تعد الجلّة أرخص من معظم أنواع الوقود الحديثة وذات فعالية، كما أن استخدامها يخفف الضغط المحلي على الموارد الخشبية، فضلاً عن أنها متوفرة بسهولة إذ يتطلب الأمر وقتاً قصيراً لجمع روث البقر، ولا توجد نفقات مادية، أما من ناحية التلوث البيئي فهي أقل مقارنة ببعض أنواع الوقود الأخرى، وهي واحدة من الطرق للتخلص الآمن من روث الحيوانات، ومصدر للطاقة المستدامة والمتجددة في العديد من الدول من خلال استخدام الروث في تسميد الأراضي الزراعية واستخراج مادة الغاز".

تاريخياً

ويشيع بين أوساط العامة أن هناك إقبالاً على استخدام الروث الجاف أكثر من الروث الرطب، لأنه يحترق بسهولة أكبر ويعرف بــ "الجلّة" التي تحتوي على نسبة رطوبة أقل من 30 في المئة.

يقول الباحث "صفون أبو عيون السود" إن استخدام روث الحيوانات الجاف أي "الجلّة" يعود إلى عصور ما قبل التاريخ، بما في ذلك "بلاد فارس" القديمة و"مصر" القديمة ، وقد تم العثور على أدلة أثرية لاستخدامات روث الحيوانات في الكثير من الاحتياجات الحياتية آنذاك.

رقائق الجاموس

لم يقتصر استخدام "الجلّة" على البلدان النامية، فقد عدت الدول الغربية روث البقر ثروة ضائعة ويمكن الاستفادة منها في مجالات عدة، وها هو المغترب السوري "عبد الباسط باكير" يؤكد لــ"مدوّنة وطن"، أن المستوطنين الأوروبيين كانوا الأوائل في استخدام روث البقر المجفف كوقود، وأطلقوا عليها "رقائق الجاموس"، وثمة دراسات لإعادة استخدام هذه المادة كوقود في "أمريكا" و"الهند"، وفي "البيرو" كانت السفينة البخارية Yavari تتغذى بوقود "روث الحيوانات" لعدة عقود.

ويضيف "باكير": "يجري تحضير روث "الجلّة" في معظم المدن الفرنسية منذ عام 1900، ويعرف روث الحيوانات الكازاخستاني الجاف باسم "كيزياك"، وهو يصنع عن طريق جمع روث الحيوانات المجفف على السهوب، ويتم ترطيبها في الماء ثم مزجها بالقش، ثم صنعها على شكل أقراص ثم يتم تجفيفها في الشمس، ليعاد استخدامها كمصدر للوقود لفصل الشتاء وطوال الصيف".

بورصة الجلّة

لا يقف استخدام روث الحيوانات عند حدود صناعة "الجلّة" بل تعدى ذلك، حيث استخدم كسماد طبيعي له فوائد كبيرة، ولذلك يطلبه كثير من المزارعين، الأمر الذي حوّل بيع الروث إلى تجارة لها بورصات خاصة عند تداولها، لكن هناك معوقات في وجه هذه "التجارة"، و يرى المزارعون أنه عندما يتم رش روث الحيوانات في الأراضي الزراعية فهذا لا يعني التخلص منها، ولكن إعادة استخدامه بشكل مفيد كسماد في المزارع، وهذا ما أوجد بورصة له ومتعهدين وسيارات خاصة لنقله.

عن ذلك يقول "أحمد المش" صاحب سيارة نقل ومتعهد: "ما نقوم به لا يعدو مجرد الوساطة بين المزارعين"، ويتمثل عمل "المش" في تنظيم العلاقة بين شركاء ذوي صلة بروث الحيوان وتنظيم نقل هذا الروث من شريك لآخر.

أما عن قيمة هذا الروث، فيقول : "في الحقيقة ليس هناك سعر ثابت، إذ تلعب الكمية المعروضة خلال الموسم الزراعي دوراً في تحديد السعر، حيث تكثر الحاجة على سبيل المثال للسماد في الربيع عنه في الشتاء، كما تلعب جودة الروث دوراً أيضاً، وتتوقف هذه الجودة على نسبة المياه والسماد العضوي في هذا الروث".

ويوضح "المش" أنّ سعر "الجلّة" يحدد على أساس المعروض منها في كل منطقة، بل إن هناك تذبذباً في ظروف عرض الروث لدرجة أن صاحبها يضطر في بعض الأحيان لدفع أموال مقابل تخلصه منها وأحياناً أخرى يدفع المزارع الذي يحتاجها بشكل ملح.