حافظ الشعر الزجلي على مكانته الخاصة في التراث السوري الشعبي، واستخدمت اللهجة المحكية في صياغته، لتصل إلى المتلقي ويتفاعل مع موسيقاها بسلطَنة، وقد تربعت "سورية" كما "لبنان" على عرش الزجل في فترة ثلاثينيات القرن الماضي، لتخلّد باقة من الزجّالين السوريين، نذكر منهم الشاعر "نسيم النبع".

ابن بيئته

مدوّنة وطن "eSyria" تواصلت مع المغترب "ابراهيم سمعان" ابن "نسيم النبع"، المقيم في "البرازيل"، حيث أضاء على جوانب مهمة من شخصية والده، وعلى شعره الذي تفوح منه حتى الآن رائحة الزمن الجميل المعتكف في أبياته.

يقول "ابراهيم" : "ولد "نسيم النبع" في قرية نبع كركر التابعة لمحافظة "طرطوس" عام 1910، اسمه الحقيقي "نسيم مسوح سمعان"، وقد لقِّب "نسيم النبع" نسبة إلى قريته نبع كركر، وقد عاش طفولة قاسية كما جميع الناس في تلك الحقبة، فرغم طراوة عوده، كان يعمل مع والده في الزراعة، وكان يقضي معظم وقته في الطبيعة التي نمّت فيه هذه الموهبة، فتراه في موسم الحصاد، وتحت شمسه الحارقة، يصدح بصوته أجمل العتابا والقرّاديات، ليُطرب من يعمل بجواره من الفلاحين، كذلك الأمر أثناء حراثة الأرض، أما في الشتاء كان أهل القرية يجتمعون في منزله حول "الموقدة"، ويطلبون منه الغناء".

منزل نسيم النبع

يشير "سمعان" إلى النمط الذي اختاره والده في شعره، العتابا والميجنا والزجل، كذلك القرّادي و الشروقي، تُغنّى بلحن شعبي خاص، يُفهم بسلاسة عند الناس البسطاء، فوثّق يومياتهم ومشاعرهم كهذا المقطع عن الفراق و الحنين :

هجرتَكْ يا نبعْ مِنْ صِغرْ سنِّي

بخط يد نسيم النبع

ويا هجران الوطن قدْ كانْ سنِّي

وبعدْ منّكْ حرامْ يبانْ سنِّي

بخط يد نسيم النبع

وبعدْ ماءك ما يحلالي شراب.

مشوار الاغتراب

يتابع سمعان حديثه بالقول: "هاجر والدي عام 1955 إلى "البرازيل" ومن على الباخرة التي سافر بها، ودّع حدود الوطن بهذا الشعر :

هطلتْ عيوني ع صحنْ خدّي عِبَرْ

لما بِنا الببّور ع المينا عَبَرْ

حين انتهينا ونظرة عيوني عَبَرْ

زادتْ شواقي ع روابي بلادنا

في "البرازيل" تعرّف على شعراء مرموقين من الجالية اللبنانية، ومنهم "إيليا أبو ماضي"، وكان "رفعت مبارك" و"السبعلي" من أصدقائه المقربين، كما جمعته الصداقة مع الشاعر "شاكر سليمان"، والشاعر الأديب "نبيه سلامة"، و كان مطربه المفضل "نصري شمس الدين".

تميزت لقاءات "نسيم النبع" بأصدقائه بالحوارات الشعرية المفعمة بالود والحماس والتحدي، كهذا الحوار الشعري بينه وبين" رفعت مبارك":

رفعت مبارك: تركتْ الأرز و دموعي معرّاي

وغصني عن ورق عمري معرّاي

عرفنا بالغرب تاني معرّاي

بشِعرو يجدد ليالي العرب

ليرد عليه "نسيم النبع" : إذا برأيي ولاد الفن قِبْلوا

فرحتْ فيهم لناح الدار قَبلوا

المعرّي لو أنت خلقان قَبْلو

ما كان النابغة بعكاظ جاب

ويضيف "سمعان": "منذ البدايات و حتى عام 1950، انتشر شعره على لسان العامة، لتغدو ذاكرة الناس هي الأرشيف الذي يحفظ له أشعاره غير المكتوبة آنذاك، إلى أن هاجر إلى "البرازيل" وتقرّب من الشعراء المغتربين، حيث بدأ العمل في الإذاعة العربية في "ساو باولو"، و نشر في مجلة" السلوى"، التي يملكها الشاعر "شاكر سليمان"، حيث كانت المجلة تنشر شعره وبعض المقتطفات من المبارزات الشعرية.. وقريباً -إن شاء الله- سأقوم بجمع أعماله وتنسيق ما هو مسجل على أقراص الـ cd القديمة وتوثيقها في كتاب، أو في موقع إلكتروني خاص تخليداً لذكراه".

مواقف وذكريات

وعن المواقف الطريفة التي حصلت مع الشاعر الزجّال "نسيم النبع" يستذكر "سمعان" حادثة طريفة تدلّ على خفة دمه وسرعة بديهته في الارتجال، عند زيارة قريبه "واكيم فياض" الفجائية له، استقبله بهذه القرّادية:

يا بو الياس اشراب وكبْ

ونبع كركر قدامك

كنو النبع ما بيكفيك

بولادي السبعة بفديك

وبدبح كوكب قدّامك (كوكب: زوجته).

ذاع صيت "نسيم النبع"، وكان كبار الشعراء يحسبون له حساباً فهو الشاب الذي لم يتابع دراسته ولم يكن أكاديمياً، لكنه اشتهر بذكائه الحاد واعتماده على الفطرة في الارتجال، ليؤكد معظمهم تفوقه على معظم الأسماء اللامعة آنذاك، وهذا ما جعله موضع تقدير من قبلهم، حتى أن الشاعر المعروف "طليع حمدان" ذكره في أمسياته.

ولأن أشعاره عبرت الحدود شفهيّاً، وصلت بطريقة ما للفنان اللبناني "مارسيل خليفة" الذي استهل بداية أغنيته "الليلة بدي خلي الكاس يفز يبوس القنينة"، وهذه الردّة من كلمات "نسيم النبع"، ولكن للأسف أثناء البحث في الغوغل يظهر في خانة كاتب الأغنية : غير معروف.

يتحدث "سمعان" عن "نسيم النبع" الأب وربّ الأسرة فيقول: "تزوج والدي في عمر 22 عاماً من والدتي"كوكب تامر"، كانت الأم المثالية المهتمة بشؤون أولادها والمنزل في غياب أبي لفترات طويلة تمتد أحياناً لعشرة أيام لإحياء الحفلات والأعياد والأعراس في المنطقة وخارجها، كان لنا الأب الكريم والصارم "المسموعة كلمتو"، وللأسف أنا و إخوتي لم نرث خصلة الشعر منه، كان يهوى السفر، وظل كذلك إلى أن توفاه الله عام 1977.