على طول المسافة بين دوّار "باب الحديد" و"باب النصر" وفي شارع خلفي بطول سبعمئة متر، يقع شارع "العريان" الأثري القديم المرصوف بالحجر الأسود البازلتي، والذي يحوي في طرفيه عشرات المحلات المختصة بالحرف التراثية القديمة التي تصنع يدوياً، وقد اشتهرت بها مدينة "حلب" من حيث جودة صناعتها، وسمعتها الطيبة في الأسواق المحلية والخارجية.

400 عام

يناهز عمر السوق أكثر من أربعمئة عام، ويقال أنه كان في العهد المملوكي سوقاً للذهب وحوّله العثمانيون فيما بعد إلى سوق لتصنيع الحرف اليدوية والنحاسية بشكل خاص، وكما يروي أهل الكار فقد دخل النحاس إلى السوق عن طريق الأرمن الذين نقلوه إلى "سورية"، وعلموه لبعض الصناع السوريين وتم توارثه بين الأجيال فيما بعد، ويعدُّ "سوق العريان" بمهنه وحرفه التراثية التقليدية واحداً من أشهر الأسواق العربية التقليدية.

مهنتنا مشتقة من حرفة النجارة العربية وهي قديمة جداً، وكان الكثير من آبائنا وأجدادنا يعملون ويتقنون مهنة النجارة العربية في الخانات والأسواق، ومن هذه المهنة جاءت حرفة صناعة الغرابيل لحاجة الأهالي الماسة لها في تصويل وتنقية البقوليات قبل وضعها في طناجر الطهي

ومن أهم منتجاته حتى الوقت الحالي صناعة (كراسي القش والغرابيل وخراطة الخشب والزنابيل والطرق على النحاس وتصليح البوابير وصناعة المدافئ التي تعمل على المحروقات وأدوات النجارة).

"حسن كولاح" تصليح بوابير قديمة تعمل على الكاز

يقول "إبراهيم كلاوي" سبعة وخمسون عاماً، وهو معلم صناعة الزنابيل: «مهنتنا قديمة جداً وورثتها عن والدي في هذا المحل، ومركز صناعتها الأساسي في مدينة "حلب" وداخل هذا السوق تحديداً وكان يوجد أكثر من عشرة محلات تعمل بهذا الكار.. في السابق كنا نصنع كفتي الزنبيل لاستخدامهما بشكل رئيسي للوزن وذلك بعد تثقيب كل كفة بثلاثة ثقوب من الأعلى، ومد حبال من داخل الكفة لطرف السيخ المعدني العلوي الذي يجمع الكفتين، وبقي هذا الشكل من الموازين هو المستخدم في الأسواق والخانات والمحلات ولدى البائعين الجوالين على ظهور الدواب، وكذلك لوزن المحاصيل الزراعية قبل أن يظهر الميزان المعدني الذي بقي مدة أكثر من عشرين عاماً يستخدم في المحلات والمخازن، وتطوّر الأمر فيما بعد للميزان الإلكتروني المستورد، وبعد هذا التطور الذي حدث تحولت مهنة صناعة الموازين الجلدية لحاجات أخرى أهمها نقل مواد البناء مثل البحص والرمل، وفي مواسم الزراعة للزيتون والحبوب ولمختلف أنواع الخضار، ولوضع علف الحيوانات بداخلها».

ويضيف: «صناعة الكفات الجلدية تكون من الدواليب المطاطية المستعملة بعد تقشيرها ومعالجتها بالأدوات الخاصة، واستخلاص القشرة الطرية الداخلية ووضعها على السندان وبرشمتها بـ(رنديلات) معدنية، ومن الدولاب الكبير لسيارة شحن يمكن صناعة 8 كفات من الحجم المتوسط و4 من الحجم الكبير تتسع كل كفة لخمسين كغ.. أعتقد أن المهنة ذاهبة نحو الانقراض والنسيان ولا يوجد أحد راغب في تعلمها رغم سهولتها».

"ابراهيم كلاوي" تصنيع موازين جلدية

عودةُ البوابيري

"مصطفى كرزون" لف أطباق الحلو الخشبية على آلة يدوية قديمة

"مصائب قوم عند قوم فوائد"، بهذا المثل لخص مصلح البوابير "حسن كولاح" ستة وخمسون عاماً، حال مهنته التي يعتاش منها وهي إصلاح البوابير التي تعمل على المحروقات قائلاً:«أنا الوحيد الذي بقي داخل "سوق العريان" وأعمل بمهنة إصلاح البوابير، وزاد الطلب علي بالسنوات الأخيرة كثيراً بعد حالة ركود عشناها قبل عشر سنوات، والسبب هو عودة الكثير من الأهالي للبحث عن بوابيرهم القديمة المركونة في المستودعات وعلى الأسطح، بغية إعادة إصلاحها لاستخدامها في مطابخهم بسبب الانقطاع الدائم للتيار الكهربائي أو فقدان مادة الغاز، ومهنة الإصلاح صعبة ومعقدة وتحتاج للخبرة والممارسة، حيث تعلمتها من والدي قبل أربعين عاماً وأغلب الأعطال تكون من الأوساخ فوق الرأس أو انسداد الفالات، والبوابير كلها من الصناعات القديمة الهندية التي دخلت البلد قبل أكثر من أربعين عاماً، وقمنا بإجراء بعض التعديلات الطفيفة عليها كي تعمل الآن على جميع أنواع المحروقات المتوفرة بالسوق المحلية من مازوت وبنزين ولجعلها اقتصادية».

حرفة الغرابيل

وانتقلت المدوّنة لمهنة أخرى عريقة داخل السوق وهي حرفة صناعة الغرابيل وعلب الحلو واللبن المصفى على يد المعلم "مصطفى كرزون" ثمانية وخمسون عاماً، والذي يقول: «مهنتنا مشتقة من حرفة النجارة العربية وهي قديمة جداً، وكان الكثير من آبائنا وأجدادنا يعملون ويتقنون مهنة النجارة العربية في الخانات والأسواق، ومن هذه المهنة جاءت حرفة صناعة الغرابيل لحاجة الأهالي الماسة لها في تصويل وتنقية البقوليات قبل وضعها في طناجر الطهي».

ويتابع بالقول: «الغرابيل متعددة في أنواعها وثقوبها، ويتم الآن استخدامها لتصويل الرمل قبل خلطه بالبناء وكذلك تستخدم في مواسم الزيتون، ومع الغرابيل بدأنا بصناعة علب الحلو العربي والألبان وكل هذه الصناعات تأتي من خشب شجرة "الكزبرينا" الموجودة في الساحل السوري، ويتم إرساله بعد قصه إلى مشرحة خشب بمدينة "دمشق"، ونقوم بعدها بالتواصل مع المشرحة لشراء ما يلزمنا حسب القياسات وطلبات الزبائن.. بالنسبة لي لم يعد يهمني أن تروّج بضائعي أو تحقق أرباحاً، ما يهمني أن يبقى لتلك الحرف العريقة أثرها وأن لا تندثر وينساها الأبناء».

أصل النحاس

وختام جولة المدوّنة كان عند الحرفي بمهنة الطرق على النحاس "زكريا نحاس" حيث شرح لنا تفصيل وأصل مهنته العريقة والمشهورة "بسوق العريان" قائلاً: «هذه الحرفة دخلت مدينة "حلب" والسوق في القرن التاسع عشر عن طريق جالية الأرمن التي سكنت المدينة، ومنهم تعلم آباؤنا وأجدادنا هذه الصنعة وهي الطرق على النحاس، لتشكيل الأواني النحاسية في المطابخ وصواني الحلو ومقالي العجة وحلل الطبخ النحاسية وجرّات الفول والبراميل، وتكلفتها عالية ومرتفعة جداً، وطريقة تصنيعها تكون بوضع القطعة المراد شغلها على السندان ثم القيام بعملية الطرق المتتالي مع تدوير القطعة نحو الأطراف.. ولا شك فإن استخدام المعادن النحاسية في إعداد الطعام يكون صحياً أكثر شريطة أن يكون مبيضاً وملمعاً، وللأسف بعد غلاء النحاس اتجهت العوائل لاستخدام التيفال والألمينوم وهو ليس بجودة النحاس، وبالنسبة لي بقيت وحيداً أعمل بهذه المهنة داخل هذا السوق بعد أن هجرها الكثيرون، ومع حالة عدم رغبة الشباب والجيل الصاعد بتعلمها لصعوبتها والجهد البدني الذي ينال منا حيث لا يستطيع الشخص بمفرده القيام بها ولا بد له من معاون لإنجاز المطلوب».

شهادات أهل الكار

"عبد الرحمن نحاس" خمسة وخمسون عاماً قال: «"سوق العريان مشهور بندرة وأهمية المهن التي يضمها، وهذا السوق كان يأتيه الزبائن من جميع المحافظات للتبضع وشراء ما يلزمهم، وحتى عملية التصدير والشحن تكون منه لخارج البلاد، والحرف الموجودة لا تتم إلا على أيدي الصناع المهرة المتمرسين بالكار، وليس باستطاعة أي شخص إنجاز تلك الأعمال، وتعدُّ مهنة الطرق على النحاس من أهم المهن التراثية العربية الأصيلة، وينتج عنها نماذج للديكورات وكتابة الآيات القرآنية والأشعار والأمثال وأواني الطعام، ولكن ما يحز بالنفس أن أغلب من عمل بهذه المهن التراثية المتنوعة هجرها، لذلك لا بد من دعم ورعاية تلك المهن وتنشيطها وتوفير كل مستلزمات بقائها حتى لا تندثر».

بدوره يقول "حمدي قواف" ستون عاماً: «منزل أهلي الذي عشت وتربيت فيه، ملاصق تماماً "لسوق العريان" الأثري، حيث كان والدي يصطحبني معه لدخول السوق والتجول فيه لشراء ما يلزمنا من حاجيات منزلية.. وداخل هذا السوق يجد أهالي حلب كل ما يلزمهم من المكنسة إلى الصحن والكرسي والغربال والمدفئة وبصناعة جيدة وأسعار معقولة، الناس هنا لا يعرفون الغش والخداع والمراوغة، هم يكسبون رزقهم بجهدهم وعرق جبينهم، والآن أحزن كثيراً كلما مررت داخل السوق وأتساءل: أين كل من كان يعمل بداخله؟!».

تم إجراء اللقاءات والتصوير داخل "سوق العريان" بتاريخ الثالث من شهر شباط لعام 2022.