في منتصف مركز مدينة "حلب" القديمة ومقابل "ساعة باب الفرج" الأثرية، يقع السوق الشهير لتصليح الساعات بمختلف أنواعها ومصادر صناعتها، هذا السوق الذي كان يشهد في الماضي نشاطاً وتنافساً لا مثيل له، فلكل محل في السوق اسمه وسمعته وزبائنه الخاصون به، ولا يزال البعض محتفظاً بعمله رغم تراجع المهنة.

سوق "باب الفرج"

موقع مدوّنة وطن "eSyria" زار سوق تصليح الساعات في حي "باب الفرج"، حيث لوحظ انحسار محلات التصليح واقتصارها على محلين فقط من أصل عشرات المحلات التي كانت تملأ السوق سابقاً.

أحب الساعة اليدوية أم العقارب كثيراً منذ طفولتي، ولم أستغنِ عنها طوال حياتي وألبسها بمجرد خروجي من المنزل ولدي ساعة "سايكو" سويسرية عمرها يفوق الأربعين عاماً أحافظ عليها، ونادراً ما أقوم بتصليحها عند التقصير والتقديم للوقت ولا أحب الموبايل ولا أتعامل به

وفي حديثه للمدوّنة يقول "عمر يحيى مكي"، 65 عاماً: «محلنا هذا يعدُّ من أقدم وأعرق المحلات بسوق "باب الفرج" لتصليح الساعات وعمره يفوق السبعين عاماً، وكان والدي من شيوخ الكار المشهورين بالاستيراد والتصليح للساعات السويسرية والألمانية بالمدينة، وكان الزبائن يأتونه من مختلف أحياء المدنية ومن المحافظات الأخرى مثل "إدلب" و"الرقة" و"دير الزور" و"الحسكة" و"القامشلي"، وكانوا يقومون بمراجعة محلنا لتصليح ساعات الربط التي كانت مستخدمة في تلك الحقبة أيام الستينيات وبقيت منتشرة حتى الثمانينيات بكثرة، وكانت تعمل تلك النوعية من الساعة على شد مفتاح الربط للآخر مرة كل أربع وعشرين ساعة، وأغلب الساعات التي انتشرت في وقتها كانت من الصناعة الفاخرة السويسرية والألمانية، واهم أعطالها كان بسبب دخول الماء للمكنة، فكان والدي يقوم بفك الساعة وتنشيفها وتبديل القطعة المعطوبة».

"محمود نصار" أحد معلمي تصليح الساعات بحي "الحمدانية"

هدوء وممارسة

"تميم شربجي" المهنة تحتاج للخبرة والتمرس والهدوء

وعن مهنة تعلم التصليح أضاف "أبو يحيى مكي": «بدأت العمل بعمر عشر سنوات، حيث طلب مني والدي حينها الجمع بين الدراسة وتعلم مهنة التصليح، وكنت أتردد يومياً بعد الانصراف من المدرسة وأقف بجانب والدي لأتعلم منه كيفية فرط الساعة والمكنة، وبقيت أكثر من سنتين وكل ما كان يطلبه والدي مني هو تبديل "الكستك" أو "الراصور"، وكان يقول لي إذا لم تتقن المهنة لا يجوز أن تضر باسم المحل فنخسر السمعة والزبائن معاً، وبعد فترة قام بإجراء اختبار لي على ساعته الخاصة حتى يعرف مدى إتقاني للعمل، وبقيت معه داخل المحل أساعده مع الصنايعية حتى وفاته في عام 2005.. في ذلك الوقت لم تكن أجرة التصليح -حسب قوله- تتجاوز 25 ليرة، والساعات كلها كانت من الماركات المشهورة مثل "جوفيال" "اردو" "كاسيو"، وتطورت صناعة الساعات عالمياً من الربط إلى الأوتوماتيك ثم الإلكترونيات والرقميات، حيث كانت أغلب الساعات تعمل على البطاريات وتبدل كل سنتين مرة.. مهنة التصليح تحتاج للخبرة والتمرس والهدوء وقوة النظر باستخدام عدسة الناظور للتكبير وضبط العطل».

أمانة المهنة

يتذكر "أبو يحيى" حادثة ما زالت عالقة بذهنه، وهي عندما أتى رجل كبير إلى محل والده يشكو من عطل بساعة الحائط التي لديه ولم تعد تعمل وتوقظه على أذان الفجر، وبعد مساوامة اتفق مع والدي على دفع مبلغ خمسين ليرة أجور إصلاح على أن يأتي في اليوم الثاني لاستلام ساعته، وعندما فتح والدي الساعة من الخلف وجد كيساً أسودَ بداخلها قد دخل جزء منه بمسننات الدولاب ما عطل الحركة وأوقفها، وعندما فتح والدي الكيس وجد بداخله مصاغاً ذهبياً، وحين حضور صاحبه طلب منه والدي زيادة الأجرة عشر ليرات وهنا رفض صاحب الساعة وقال له الأجور كما اتفقنا، فقال له والدي ساعتك سليمة ولا يوجد فيها أي عطل، ولن آخذ قرشاً واحداً، وهذا الكيس هو الذي كان يعيق عمل ساعتك، وذهل الرجل مما شاهده وكانت زوجته قد خبأت هذا الكيس في الساعة، وأراد مكافأة والدي بما يرغب من المال، لكن والدي رفض وسلمه الساعة والذهب وقال له هذا مالك.

"سوق باب الفرج" الشهير لتصليح الساعات

شيوخ الكار

يروي أصحاب المحلات كيف كان سوق "باب الفرج" يضم أكثر من عشرين محلاً متلاصقاً لإصلاح الساعات، يتصف أصحابها بالمهنية والثقة والجودة والمنافسة الشريفة فيما بينهم، حتى أن بعض الصناع الذين تعلموا المهنة قاموا بافتتاح ورشات صغيرة عبر حقائب يدوية على قارعة الأرصفة وأمام السينمات يعتاشون منها، وبعد الأزمة ترك أغلب أصحاب المحال المهنة بسبب تراجعها وضعف مردودها وعدم الإقبال على تعلمها، وإبدالها بالاعتماد على المنبه وتوقيت الموبايل، إضافة لعامل الهجرة خارج البلد ولم يبقَ منهم إلا عددٌ محدودٌ.

وفي حي "الحمدانية" التقينا المعلم "محمود نصار"، 55 عاماً، حيث يقول: «في السابق كانت الساعة تعدُّ من أهم أساسيات البيوت العربية سواء المعلقة منها على الجدار أو ساعة اليد، وتستخدم لضبط مواعيد الصلاة والاستيقاظ عند ذهاب الأولاد إلى مدارسهم وللزينة، كما كانت الساعة تعدُّ من كماليات اللباس العربي للحلبيين، ونادراً ما كان يخرج الرجل من منزله لحضور مناسبة دون وجود ساعة في يده أو من النوع الآخر وهي الساعة الألمانية المربوطة بحبل داخل جيب طقمه».

ويضيف: «تعلمت المهنة على يد والدي "الحاج بكري" ومعلم آخر من بيت "العقاد"، وأول ما تعلمت التصليح كان من خلال ساعات الربط في محل أمام موقف باص القلعة، وبقيت هناك ستة عشر عاماً، وبعد تسريحي من أداء خدمة العلم افتتحت محلاً للتصليح بمدينة "سراقب"، لقد تبدلت طريقة التصليح كثيراً عن أيام زمان، ففي السابق كان يعتمد التصليح على فرط المكنة وتبديل القطعة التالفة، بينما الآن تأتينا المكنة مغلفة (مبرشمة) قطعة واحدة وتوضع مكان المكنة السابقة، وقد اشتهرت في السابق ماركات "أورينت" و"سيتيزن" و"كامي" و"سايكو" والتصليح يعتمد على الهدوء والتركيز وكثرة الخبرة والممارسة».

بين الجوّال والساعة

وعن سبب تراجع المهنة أضاف مصلح الساعات الحاج "تميم شربجي"، 55 عاماً: «ظهور الجوّال وغلاء الساعات الأصلية أثّرا كثيراً على مهنتنا، فالجيل الحالي لا يلبس ساعة بيده ويعتمد على توقيت الموبايل، عدا عن الغلاء الكبير لسعر الساعات الألمانية والسويسرية الأصلية حيث يفوق سعر الواحدة منها الثلاثة ملايين ليرة وربما أكثر، وأغلب المستوردات من الساعات الآن من النوع الصيني الخفيف الذي يعتمد على تبديل المكنة ووضع بدل عنها».

بينما العم "مصطفى شرف الدين"، 65 عاماً يقول: «أحب الساعة اليدوية أم العقارب كثيراً منذ طفولتي، ولم أستغنِ عنها طوال حياتي وألبسها بمجرد خروجي من المنزل ولدي ساعة "سايكو" سويسرية عمرها يفوق الأربعين عاماً أحافظ عليها، ونادراً ما أقوم بتصليحها عند التقصير والتقديم للوقت ولا أحب الموبايل ولا أتعامل به».

تمت اللقاءات والتصوير بحي "باب الفرج" و"الحمدانية" بتاريخ الـ21 من شهر شباط لعام 2022.