يستحضر السير في شوارع مدينة "حمص" الكثير من ذكريات ما زالت عالقةً في أذهان أهلها، وفي ذاكرة من مرَّ فيها من الغرباء أيضاً، آثار أبنيةٍ دمرَّتها الحرب، شاخصات تعريفٍ لمحالٍ هجرها أصحابها، شخصيات تركت ذكراها عند ناصيةٍ ما.

تشهدُ آثار ذاك المبنى الكبير القابع عند تقاطع حي "القرابيص" و"القصور" على الكمِّ الكبير من الخدمات الطبيِّة التي كان يُقدِّمها لأبناء مدينة "حمص" وريفها، على مدار 24 ساعة يومياً، حينما كان ملاذاً علاجياً لعامة الناس على اختلاف مستوياتهم. إنَّه "المشفى الوطني" الخارج عن الخدمة مذ عام 2013 مع اشتداد حدَّة الأحداث وقتها.

كانت هناك شخصيةٌ فريدةٌ بمظهرها الخارجي وبلباسها وبالبضاعة التي كان ينادي السائرين إليها، وهو يتجول بين مدخل السوق والباب القبلي للجامع "النوري الكبير"، هو "أبو جمال كسيبي" بائع حفارات "المحشي"، ذلك الرجل الضرير الذي كان مميزاً بأسلوب ندائه، هو الآخر أخفته الحرب عن مشهد ذلك السوق التاريخي في وقتنا الراهن، ليستقرَّ به الحال مهاجراً في "السويد" تاركاً ذكراه لدى أجيالٍ عديدةٍ، من أبناء هذه المدينة وفي أسواقها التي عاش فيها لعقودٍ طويلةٍ

ذكرياتُ زمان

في معرض سؤاله عن ذكرياته في المشفى وما كان يقدمه من خدمات يقول الدكتور "عبد السلام الأبرش" في حديثه لمدوّنة وطن "eSyria": «بداية عملي فيه كانت قبل 39 عاماً، كان حجم العمل فيه كبيراً كمَّاً ونوعاً، حيث وصلت سعته إلى نحو 350 سريراً في سنوات عمله الأخيرة، إضافةً لوجود ما يقارب من 100 طبيبٍ مقيمٍ فيه ومن جميع الاختصاصات الطبيِّة، بالنسبة لي كجرَّاح عام وصل عدد العمليات الجراحية التي كان يجريها المشفى لنحو 20 عملية في اليوم الواحد، عدا عن العمليات المعنية باختصاصات أخرى، كالعظمية والأذنية وسواها. تعود بي الذاكرة هنا إلى عام 1996 حينما أُنشأت "منظومة الإسعاف السريع" المجهزة بأحدث السيارات وأجهزة الاتصال اللاسلكي، خلال 12 سنةً من تسلُّمي رئاستها شهدتُ على الدور الكبير الذي قدَّمته في مجال العمل الإسعافي والكوادر الطبية المحترفة التي كانت تعملُ فيه، ومن وجهة نظري الشخصية فإنَّ "المشفى الوطني" صاحب فضلٍ كبيرٍ في تخريج أجيال عديدة من أمهر أطباء مدينة "حمص" المعروفين في وقتنا الراهن».

المشفى الوطني على وضعه الراهن وقبل سنوات الحرب

مطاعمُ للذكرى

واجهة مطعم الشلال ما بين الماضي والحاضر

تستحضر ذاكرة الدكتور "عبد السلام" أيضاً بائعي الكتب المشهورين "منار سحلول" الذي كان يفرش بضاعته عند سور حديقة "الدبايير"، و"ممدوح الحزوري" الذي كان مميزاً بموقعه عند سور بناء "السرايا" مقابل "الساعة الجديدة" بحسب ما ذكر أثناء الحديث مع مدوّنة وطن eSyria".

عند الانتقال غرباً، وتحديداً باتجاه ما يعرف بطريق "الميماس" ولمسافةٍ قصيرةٍ نوعاً ما، تستحضر ذاكرة الحماصنة مطعمي "ديك الجن" و"الأهرام" أو "الميرندا" -كما كانت تسميته سابقاً- الأكثر شهرةً في المدينة خلال العقود الثلاثة الأخيرة ما قبل وقوع الحرب والمميزين بموقعهما على ضفاف نهر "العاصي". الطريق بحدِّ ذاته كان يعجُّ بمظاهر الحياة نهاراً وليلاً، كونه شريان وصلٍ بين مركز المدينة وحيَّ "حمص الجديدة" المسمًّى شعبياً "الوعر" وقرى الريف الغربي كذلك، أمَّا الآن فيمكن للسائر فيه ملاحظة واقعه المقفر، في أغلب ساعات اليوم وخاصةً الفترة المسائية منه.

أبو جمال كسيبي بائع الحفارات وأبو خالد مندو بائع السحلب

سينما "حمص"

عند العودة إلى مركز المدينة وبين ساعتيها "الجديدة" و"القديمة" وتحديداً قرب حديقة "الدبابير" تُطلُّ واجهة مبنى سينما "حمص" التي ما زالت ذكرى عروض أحدث إنتاجات الأفلام العربية والأجنبية الملصقة على مدخلها راسخةً في أذهان أجيال متعاقبة طيلة أربعة عقودٍ على زمن تأسيسها من قِبَلِ مالكها "نادر الأتاسي"، وعلى بُعدِ خطواتٍ من دار السينما ذكرى أخرى تستحضرها تلك اللوحة الشاقولية الكبيرة التي تحملُ اسم "مطعم الشلال السياحي" وواجهته المقفلة منذ أكثر من 11 عاماً، المطعم الذي كان يضُجُّ بالروَّاد على مدار ساعات عمله اليومي ويتميز بأصناف العصائر والأطعمة (السندويش) المختلفة التي كان يقدِّمها لزبائنه.

السوقُ المسقوفُ

شرقاً ولمسافةٍ لا تتعدى مئات الأمتار يُطلُّ "السوق المسقوف" أحد أكثر معالم مدينة "حمص" شهرةً من الناحية التاريخية، الذي يُمكن تشبيهه بخلية النحل لكثرة روّاده من قاصدي البضائع المختلفة وأصنافها الكثيرة، سألنا "عبد المؤمن الحجار" عن أهم الصور التي تستحضر في ذاكرته عن السوق فقال: «كانت هناك شخصيةٌ فريدةٌ بمظهرها الخارجي وبلباسها وبالبضاعة التي كان ينادي السائرين إليها، وهو يتجول بين مدخل السوق والباب القبلي للجامع "النوري الكبير"، هو "أبو جمال كسيبي" بائع حفارات "المحشي"، ذلك الرجل الضرير الذي كان مميزاً بأسلوب ندائه، هو الآخر أخفته الحرب عن مشهد ذلك السوق التاريخي في وقتنا الراهن، ليستقرَّ به الحال مهاجراً في "السويد" تاركاً ذكراه لدى أجيالٍ عديدةٍ، من أبناء هذه المدينة وفي أسواقها التي عاش فيها لعقودٍ طويلةٍ».

في "الدبلان"

معلَمٌ آخر تشتهر به المدينة ألا وهو شارع "الدبلان" الممتدِّ غرباً قبالة "الساعة الجديدة" والمشهور بمحلاته التجارية، ذكريات كثيرةٌ ويوميةٌ لأهل "حمص" فيه، يتحدث "رامي دويري" عن بعضها لمدوّنة وطن "eSyria" فيقول: «في نهايته كان الأخوان "أبو عمار" و"أبو خالد مندو" علامةً مميَّزةً في دكانهم الصغير المعروف شتاءً ببيع "السحلب" الساخن ورشَّة القرفة عليه مع "الصمون"، وصيفاً ببيع المرطبات "الكازوز" بعبواته الزجاجية المميزة، التي كان اسم المحل نسبةً لذلك "كازوز مندو"، وليس ببعيدٍ عنه ما تزال لوحة "بروستد كريش" تستجلب ذاكرة الحماصنة صوب المطعم الأكثر شهرةً على مستوى المدينة في تقديم الوجبات السريعة بأنواعها المختلفة وكان يديره "أبو عمر كريش" ومعه إخوته والذي كان مقصداً مشهوراً كذلك للعابرين فيها، تلك الناصية التي كان يقع عندها، باتت شبه مهجورةٍ بعدما هجرها أصحابها واستقروا في بلدٍ آخر».

بين الشوارع والأبنية المهدَّمة كثيرٌ من صور المعالم والشخصيات التي غابت بفعل الأحداث المؤلمة التي شهدتها مدينة "حمص" ولم يبقَ منها إلاَّ ذكريات لزمن جميلٍ مضى.

اللقاءات مع الضيوف تمت بتاريخ 15-16-17 كانون الثاني 2022.