بهمةٍ ونشاطٍ ومراحلَ سريعةٍ في البناء والترميم بدأت حمامات مدينة "حلب" في الأحياء القديمة تستعيد مكانتها وعافيتها وروحها الممزوجة بذكريات الزمن الجميل الذي كان فيه ارتياد الحمامات من أهم الطقوس والعادات وخاصة مساء يوم الخميس بعد عناء عمل نهاية الأسبوع، وكذلك في مناسبات الأعياد والسهرات والأفراح والزواج.

صروحٌ معماريّةٌ

يعود بناء أغلب الحمامات القديمة بمدينة "حلب" إلى القرن الثاني عشر، حيث تمتاز تلك الحمامات بالبناء والطراز المعماري الجميل والفتحات والأقواس للنوافذ في المدخل والأسقف، وحمامات "حلب" كانت بمنزلة صروح معمارية جميلة تشبه حمامات "قسطنطينية"والأناضول، وهي واسعة جداً ولها أبواب ونوافذ تطلُّ على الجهات الخارجية، ومقاعد حجرية طويلة يمد عليها البساط، وفي وسط المدخل توجد فسحة لبركة ماء ونافورة تستخدم للتزيين وغسل أقمشة الحمام، وينتقل المستحمون بالتدرج داخل أقسام الحمام من قسم بارد إلى ساخن، وكما هو متعارف عليه تصمم كل حمامات السوق بالبناء وفق (البراني - الوسطاني- الجواني- بيت النار)، وتركّب في كل الأجنحة الحنفيات النحاسية وتستخدم الطاسات من النوع نفسه.

أنا سعيد جداً بعودة حمامات "حلب" القديمة للعمل من جديد لما لها من متعة ونكهة، وقبل مدة قصيرة دخل حكام كرة "حلب" وبشكل جماعي أحد حمامات المدينة التي انطلقت للعمل ولاقى دخول الحمام الارتياح والمتعة لدى الجميع

حمام "باب الأحمر"

يقع هذا الحمام شرق قلعة "حلب" ويعود تاريخه إلى العهد المملوكي، وعمره أكثر من 537 عاماً، وكان يعدُّ مكاناً تراثياً ومتنفساً ترفيهياً لأهالي المدينة ومركزاً مهماً لإقامة السهرات والأعراس لأبناء المدينة، خرج الحمام عن الخدمة في زمن الحرب الأخيرة قبل أن يعود ويرمم ويستعيد عافيته من جديد في عام 2017.

واجهة مدخل "حمام النحاسين"

"حمام النحاسين والست"

طقوس اللباس داخل الحمام

هذان الحمامان متلاصقان ببعضهما ويقعان داخل سوق المدينة القديمة، ودخلا مرحلتهما الأخيرة بالترميم بعد توقف لمدة عشر سنوات.

وعن تاريخ هذين الحمامين تحدث صاحبهما "إبراهيم قطان" لمدوّنة وطن قائلاً: «يعدُّ "حمام النحاسين" من أقدم حمامات المدينة، ويعود تاريخ بنائه إلى أكثر من 950 عاماً وقد شيد بالعهد الأيوبي، بينما "حمام الست" شيّد بالعهد المملوكي قبل أكثر من 700 عام، وتتمركز أغلب الحمامات في الأحياء القديمة وذلك يعود للتقسيم الإداري لخدمات أهالي كل حي حتى لا يضطر أبناء كل حي للذهاب بعيداً عن منازلهم للبحث عن حمام، وكان يعدُّ ارتياد الحمام ركناً أساسياً من طقوس نهاية الأسبوع ووسيلةً من وسائل النظافة ومحلاً للرفاهية والاستجمام والمتعة».

"إبراهيم قطان" صاحب "حمام النحاسين"

ولكل الحمامات في "حلب" حسب قول "قطان": «نمط البناء نفسه حيث تنخفض الأرضية لكل الحمامات عن مستوى الشارع بعمق لا يقل عن ثلاثة أمتار أو ست عشرة درجة، وذلك للحفاظ على حرارة الحمام في الشتاء والبرودة صيفاً، وكان يستخدم في السابق الخشب والنشارة لتسخين الماء بينما الآن يعتمد على الفيول والمحروقات (المازوت)، ويقال إنّ العثمانين هم أول من أدخل التدفئة المركزية لبيت النار الحجري الذي تسلّط عليه أدخنة الحراقات لتدفئة الحمام، حيث يبنى بيت النار من الحجر البازلتي الأسود ويوضع فوقه الملح للحفاظ على الحرارة ثم يوضع فوقه الحجر الأصفر المبلط في القسم الجواني، ويتألف الوسطاني من خلوات وتكون حرارته معتدلة بين البراني والجواني».

ويشير "قطان" إلى أهمية الحمامات لأهالي "حلب"، حيث كانت تقام فيها الأعراس والسهرات والمناسبات والعزائم، ويأتون معهم بالكباب والفراريج واللحومات والكبة النية والتبولة، وعادة تخصص الأوقات المسائية للرجال والصباحية حتى ما بعد الظهر للنساء.

وعن حمام "النحاسين" يقول: «تعرض الحمام لأضرار كبيرة في مرافقه وبنيته الداخلية، وتوقف عن الخدمة مدة عشر سنوات، وخلال العام الماضي وبتكلفة مادية مرتفعة نظراً لغلاء المواد بدأت مرحلة الترميم الشاملة مع الإكساء للجدران بالخشب الزان والتبليط للأرضيات وتركيب الصحية والإنارة، وجهزنا حمام (الساونا) البخاري والمسبح الدافئ لإعادة عجلة الدوران لتشغيل وإقلاع الحمام من جديد».

طقوسُ الحمام

لدخول الحمام طقوس وعادات تحدث عنها المهندس "يحيى قطان" بالقول: «عندما يأتي الزبون للحمام يجلس بالبراني ويتقدم منه العامل المختص لهذا القسم ويعطيه المنشفة مع مفتاح لخزانة الأمانات، ويبدأ الزبون بتبديل ملابسه وهو جالس على المصطبة البرانية، وبعد الانتهاء ينتقل بالتدريج للوسطاني الذي تكون حرارته معتدلة، ويدخل بعدها إلى إحدى الغرف ويبدأ بسكب الماء المعتدل على جسده، ثم ينتقل بعدها للجواني الذي يكون أشد حرارة ويأخذ أكثر من حمام ثم يجلس فوق حجرة بيت النار برهة للتعرق الزائد وتفتيح البشرة، ثم ينتقل للوسطاني ثانية للتفريك، ويأخذ بعدها حمام التلييف بالإسفنجة والصابون من جديد، ويعود لأخذ دوش حمام الجواني قبل أن ينتقل للبراني، ويقوم العامل بمنحه طقم مناشف جديد على جسده وفوق رأسه وتقدم له المشروبات الساخنة من (زهورات وشاي وقهوة) ويتم إكساء جدران الحمام من جميع الجوانب بالخشب الزان للحفاظ على الحرارة وتفرش المصاطب بالجلد والقماش والمخدات والمساند لراحة الزبون أثناء أخذه قسطاً من الراحة».

حولَ القلعةِ

معروف أنّ أغلب الحمامات في الأحياء القديمة تمركزت حول القلعة وحي "باب الحديد"، وقبل الزلزال المدمر الذي ضرب مدينة "حلب" في عام 1922 كان يوجد 172 حماماً، هدم منها الزلزال مئة حمام وبقي منها 72 وفي الوقت الحالي لا يتجاوز عدد الحمامات الموضوعة بالخدمة العشرة.

الحاج "محمود ملقي ابو قدور" 66 عاماً قال: «ارتياد الحمامات طبع متجذر منذ القدم لدى أهالي "حلب"، يكون دخول الحمام أجمل عندما يكون بشكل جماعي مع الأهل والأصدقاء والجيران وزملاء العمل، وحمام "النحاسين" صاحبه الأصلي "أبو طه النطفة جي"، كان يستقبلنا بوجه بشوش ويقدم لنا جميع الخدمات ولوازم الحمام من بشاكير وصابون وليف تكييس وتفريك، وفي الاستراحة على البراني كنا نتناول الأطعمة والمشروبات ونقوم بالغناء والرقص ولم يكن المبلغ الذي كنا ندفعه يتجاوز مئة ليرة وكان يسمح لنا "النطفة جي" بالبقاء بالحمام من مساء الخميس حتى فجر يوم الجمعة».

"محمد نطفة" حفيد صاحب حمام النحاسين يقول: «جدي "عبد الفتاح" هو صاحب حمام "النحاسين" بمدينة "حلب" قبل بيعه لـ"القطان" ويعدُّ حمام "النحاسين" أقدم حمامات المدينة، وقد روى لي والدي أن جدي قام بتجهيز وتعمير الحمام ونفضه في فترة الخمسينيات والستينيات، وكان يشعل ناره على الحطب ويستقبل كل أهالي حارته ولم تكن أجرة الدخول تتجاوز 25 ليرة ثم ارتفعت إلى الخمسين حتى وصلت بالسبعينيات إلى المئة ليرة».

بدوره يقول الحكم الدولي "عبد الله بصلحلو" : «أنا سعيد جداً بعودة حمامات "حلب" القديمة للعمل من جديد لما لها من متعة ونكهة، وقبل مدة قصيرة دخل حكام كرة "حلب" وبشكل جماعي أحد حمامات المدينة التي انطلقت للعمل ولاقى دخول الحمام الارتياح والمتعة لدى الجميع».

تم إجراء اللقاءات والتصوير بتاريخ الثالث والعشرين من شهر كانون الثاني لعام 2022 بحمام "النحاسين" داخل "سوق المدينة" و"حمام الجديد" بـ"حي باب الحديد".