تميّزت مدينة "حلب" منذ القدم بكونها المنبع الرئيسي والمهم للروائح والعطور الجميلة، التي كان يجري تحضيرها وبيعها في سوق العطارين الشهير، حيث برع أهل "حلب" باختيارهم لأفضل الروائح الشرقية والغربية، إذ يعدّون ذلك جزءاً مهماً من مظاهر الأناقة في المناسبات الرسمية والأعياد والأفراح والأسفار والزيارات العائلية بينهم، ويحرص أغلبهم على اقتناء عطره الخاص الذي يرتاح له، بينما تختلف أذواق وأنواع العطور من شخص لآخر، وغالباً ما يرتبط الاختيار تبعاً للعمر والفصل والمناسبة.

عطوراتي بالتخصص

موقع مدوّنة وطن "eSyria" زار "حي الفرقان" الذي تنتشر فيه محلات بيع العطور والتقى "مجد بوادقجي" صاحب محل للعطورات الذي حدثنا عن علاقته بهذه المهنة ويقول: «يعدُّ سوق المدينة المجاور لقلعة "حلب" بمحلاته التي تبيع العطورات الشرقية والغربية، السوق الرئيسي في "حلب" قبل أن ينتقل لحي "الفرقان" بعد الأزمة، وذاع صيت اسم عائلتنا "بوادقجي" مع اسمي عائلتي "كرزة" و"أزمرلي" بمهنة بيع وتصنيع العطور، وبالنسبة لعائلة "بوادقجي" عمل أجدادنا قبل أكثر من مئة عام بمهنة بيع وتركيب العطور، والمهنة مشتقة ومأخوذة من المهنة الرئيسية وهي بيع العطارة والتواصل، وذلك بسبب تداخل المهنتين وقربهما من بعض، ومهنة العطورات مشتقة من الروائح الزهرية القديمة كالورد الجوري والياسمين والقرنفل والفل.

صناعة العطور علم قائم بحد ذاته وتكلفتها مرتفعة جداً، وأي اختيار يطلبه التاجر لصنف رديء يوقعه بعجز مادي يصعب تعويضه

ويضيف: «بداية تصنيع العطورات الحلبية المحلية كانت من العطور الشرقية مثل "الفل" و"الياسمين" و"العود" و"العنبر" و"الدريرية" و"الصنوبرة"، وكل هذه الأنواع كان يصنع "أسنسها" بمعامل حلبية قبل الأزمة، وتلاقي إقبالاً كثيفاً عليها داخلياً وخارجياً، حيث يخلط "الأسنس" مع المثبت الأبيض المستورد والكحول وفق نسب ومقادير لنحصل بعدها على الرائحة المطلوبة، وكل هذه الخلطات هي صناعة حلبية، وأيضاً اشتهرت "حلب" بتطوير العطور المشتقة من العطور "الفرنسية" من خلال إدخال خلطات محلية عليها بنسب مدروسة لتبقى كل هذه العملية تحت مسمى الصناعة الوطنية للعطور».

ويشير "بوادقجي" إلى أنه ومع تقدم الزمن وتطور صناعة العطور عالمياً بدأت تتدفق إلى السوق الأصناف الغربية وأغلبها صناعة "إسبانية" و"فرنسية"، وبعد الأزمة توقف الإنتاج المحلي ليقتصر الأمر على العطور المستوردة حصراً، وفي عام 2008 تمت دعوتنا من قبل إدارة معرض "دمشق" الدولي للمشاركة بجناح خاص للعطورات وشهد الجناح عرضاً لمختلف أنواع العطورات الشرقية والغربية مع الإقبال الكثيف للزبائن.

"شطارةُ" البيع

بدوره يقول "إبراهيم عامر" وهو متخصص ببيع العطور بحي "باب جنين" منذ ثلاثين عاماً: «تعلمت هذه المهنة وأصول خلطتها ومقادير تركيبها لدى معلمي "محمد كرزة"، حيث كانت لديه خبرة عرض مختلف العطور، وإغراء الزبائن عند الشراء بالطلب منهم شمّ عدة أنواع لاختيار ما يناسبهم، وكان يبدأ بخلط "الأسنس" بالمثبت الأبيض مع الكحول العادي ضمن العبوة المراد بيعها، ثم يقوم بعدها برش إبرة (الشرنك) على قميص أو طقم الزبون لإقناعه بحسن اختياره، وأحياناً كان ينصح الزبون بلف العطر الشتوي بقماشة ووضعه بمكان مظلم لمدة ثلاثة أيام حتى يتعتق ويتجانس ويصبح أذكى، ولا شك أنه حتى لأصحاب هذه المهنة من أهالي "حلب" سمعة كبيرة على مستوى البلد بصناعة وتركيب العطورات الشرقية، وحتى في طريقة استيراد أفضلها من مصادرها وخاصة الفرنسية، وقبل الأزمة كان هناك معمل "كاريس ومكرنبة" لتصنيع عطر الورد الجوري وكان ينتج أيضاً "الفل" و"الياسمين"و"النرجس" و"الغاردينيا" و"البنفسج" وكذلك كان في مدينة "دمشق" مصانع للمنتجات العطرية نفسها أيضاً، وكان يتم تبادل المنتجات بين تجار ومحلات وأسواق المدينتين، وبرع العطارون بحلب بمزج نوعين مع بعضهما مثل "الفل" و"الياسمين" و"العود" والعنبر"».

ويضيف "إبراهيم" في حديثه للمدوّنة: «العطور في كل دول العالم غالية الثمن، ومكلفة في صناعتها واستيرادها وعلى التاجر أن يعرف ما هو طلب زبائنه حتى لا يختار أنواع غالية لا يوجد عليها طلب، كما أنّ للبيع أصوله، حيث توضع العطور في (جام) بللور مغلق ويأتي الزبون إما للسؤال عن نوع محدد يختاره أو يطلب رأينا ومشورتنا بنوع آخر، وهنا نسأله عن المناسبة التي لديه ونساعده بالاختيار، ويكون عن طريق البخ على يده ونطلب منه شمها إن أعجبته ونسأله بعدها هل يريد عطره خفيفاً أم ثقيلاً ليتم بعدها خلط "الأسنس" بالمثبت والكحول».

صناعةٌ محليّة

"محمد مالكي" صاحب محل عطور في حي "الحمدانية" أكد أنه تعلم المهنة على يد والده بخان "حج موسى" في "السويقة" وأنّ والده في السابق كان يستورد بضائعه وعطوراته من معمل "الربيع بـ"اللاذقية"، بينما أصبحت أغلب البضائع العطرية الآن مستوردة عبر شركات ووكلاء نظراً لغلاء وارتفاع تكلفة تصنيعها محلياً.

ويعدد التاجر أصناف وأنواع العطور القديمة التي كانت تستخدم بكثرة مثل "الراماج" و"ريف دور" و"كاررون" و"ون من شو" أما العطور الحديثة فهي من الصناعة "السويسرية" و"الإسبانية" وأيضاً "الفرنسية" التي تراجعت قليلاً.

ويختم "المالكي" بالقول: «صناعة العطور علم قائم بحد ذاته وتكلفتها مرتفعة جداً، وأي اختيار يطلبه التاجر لصنف رديء يوقعه بعجز مادي يصعب تعويضه».

حديثُ العطور

الرسام التشكيلي "خلدون الأحمد" يقول: «أنا لي مزاج خاص باستخدام العطور وخاصة عند خروجي من منزلي وفي المناسبات الرسمية وافتتاح المعارض التشكيلية، ولا أكاد أخرج دون أن أضع على ياقة قميصي عطري المفضل الذي أرتاح إليه واستخدمه منذ زمن بعيد، وأحياناً يصلني من أخي بدولة "الأمارات" أو أشتريه من السوق المحلية أو أطلب خلطه بوجودي من محل العطارين».

أما العامل "محمود داية" فقال: «أنا موظف وأختلط بزملاء العمل وأحرص على أن تكون رائحتي مع ملابسي لطيفة ومن النوع الخفيف، ومن دون مبالغة في رش كميات كثيرة وإنما بالحد الأدنى والمقبول لأن كثرتها مزعجة أحياناً».

تمت اللقاءات والتصوير بأحياء "الفرقان" و"باب جنين" و"الحمدانية" بتاريخ الثالث عشر من شهر كانون الثاني لعام 2022.