" مو بس الشجر احترق .. قلوبنا احترقت معه" عبارة تكررت كثيراً منذ ذلك اليوم اللاهب من أيام تشرين الأول عام 2020, ولطالما رددتها الألسن وقرأتها وجوه الفلاحين في منطقة "الكفرون" في محافظة "طرطوس"، التي نالها نصيب وافر من حرائق ذلك اليوم.. حرائق أدخلت عائلات دائرة العوز والفقر، وأخرى اقتحمت مهناً لا علاقة لها بها، وآخرون ماتوا قهراً على أرزاقهم .

ومهما اختلفت تفسيرات ما حدث فإن آثار ما جرى ما زالت حاضرة في الأذهان وكأن ما حصل قبل عام لا تزال آثاره حاضرة حتى اليوم.

يومٌ أسود

يقول "ربال سليمان" مزارع وصاحب كرم زيتون ورثه عن أبيه: "عندما اندلعت النار في كرمي، شعرت بالحسرة.. لم أتمالك نفسي فقطعت غصن صنوبر لأساعد بواسطته على إخماد النار، حتى أصبت بحروق سطحية في جسدي.. كنت أجني سنوياً حوالي 10 أو 12 صفيحة زيت زيتون، كانت تكفيني وعائلتي مصروف سنة كاملة".

نسغ الحياة

يتابع "سليمان" بغصة: "سعر صفيحة الزيت اليوم يتراوح بين 200 و250 ألف ليرة، ومن الصعب شراؤها في الوضع الراهن، فأنا اليوم أشتغل عامل بناء، والتعويضات لا تسد الرمق".

بدوره يشرح" أبو ابراهيم" المتمرس بالزراعة وهو أحد المتضررين من الحرائق أيضاً كيف غدت الكروم بعد الحريق، وما يجري اليوم من محاولات لترميمها، ويضيف: "لقد وزعت الأسمدة بمعدل 400غ للشجرة المحروقة الواحدة، هناك تلف كلي أدى إلى يباس الشجرة بالكامل وفي هذه الحالة تعطي الشجرة ناميات أو أغصان صغيرة من الكرسي (أي من القاعدة)، والتلف الجزئي حيث تنمو الأفرع من ساق الشجرة لتعطي ناميات، وفي المستقبل سأزيل هذه الفروع وأبقي غصناً واحداً أو اثنين، لكن لن تعطيني الشجرة نتيجة اقتصادية قبل مرور 10سنوات".

الأشجار تموت حرقاً

ويؤكد أبو إبراهيم" أن التعويضات لا تكفي، فقد جرى تعويضي بمبلغ 10 آلاف ليرة عن الشجرة الواحدة، استلمتها على ثلاث دفعات، مناشداً الجهات المعنية مواصلة التعويض على المزارعين المتضررين ريثما تبدأ الأشجار بالعطاء مجدداً.

من جهتها تستعيد "أم كنان" المرأة السبعينية ذكريات ذلك اليوم بحرقة، وتقول - بعد أن رفضت في البداية الحديث لأنه برأيها (شو نفع الحكي)- : "حاصرتنا النار من ثلاث جهات واضطررنا لمغادرة منازلنا التي اقتربت منها ألسنة اللهب، قضينا الليل في القرية المجاورة التي فتحت بيوتها للجميع بكل محبة".

طبيعة وعرة زادت من صعوبة العمل

وتضيف: "لقد استلمت السماد والغراس والتعويضات المخصصة، لكن لم يبق في العمر الكثير لأجني، وحتى الحطب تمت سرقته من الأرض".

مبادراتٌ تطوعيّة

الأب" فادي سلوم" الذي كان واحداً من الجنود المجهولين في معركة الإطفاء يقول في حديثه لمدوّنة وطن: "قضى حريق العام الماضي على مساحات شاسعة في قرى "الكفارين" ونواحيها.. قمنا بمساعدة المزارعين بعد إحصاء أضرارهم حيث قدمت البطريركية معونة إسعافية تمثلت بالسلل الغذائية التي جرى تقديمها شهرياً بادىء الأمر.. كان عدد الفلاحين المستفيدين من أول مشروع في قرية "نبع كركر" 73 شخصاً وفي "بدرة" حوالي 74 شخصاً، ووزع الباقي على القرى الأخرى".

ويتابع: "انتقلنا إلى مرحلة أخرى هي البدء بمشاريع إحياء الأراضي المتضررة، وقُسمت إلى ثلاث مراحل، بدءاً بإحصاء الأشجار وتوزيع الأسمدة المجانية والغراس، بالإضافة إلى حساب تكلفة الفلاحة والقص، كان هناك تجاوب من قبل الأهالي بالتقيد بالإرشادات.. فضلاً عن التعاون مع عدة جمعيات كجمعية "البتول" و"الأمانة السورية للتنمية".

ويضيف الأب "سلوم" قائلاً: "جرى العمل على إعادة إحياء الأراضي الأخرى غير المستثمرة بزراعتها، وترميم سواقي المياه بطول يتجاوز 4000 متر بين رئيسي وفرعي، وكانت اليد العاملة هم شباب القرية والفلاحون المتضررون ذاتهم، وتم تأسيس فريق إطفاء "نبع كركر" التطوعي بهمة الشباب الذين أثبتوا غيرتهم وجدارتهم".

وأما عن المطالب فيقول: "طالبنا بشق طرقات نارية فأرسلت لنا الوزارة البلدوزرات لهذا الغرض، وتم فتح بعض الطرقات الزراعية، لكننا نأمل أن تفتح طرقات أخرى تتوافق والمساحات الزراعية الشاسعة قبل أن يتم سحب الآليات إلى مكان آخر".

ويختم الأب بالتأكيد على معاناة الفلاح المستمرة من جميع النواحي، فالتعويضات العينية والمادية لن تغنيه عما فقد، وهناك تخوف دائم من اندلاع حرائق أخرى تقضي على الذي تبقى من الغطاء الأخضر".

جهودٌ رسميّةٌ

تشير إحصائيات مديرية زراعة "طرطوس" إلى أن المساحة الكلية المتضررة في قطاع منطقة "الكفرون" تبلغ 1033 دونماً، وحسب ما يشير "علاء علي" مدير الوحدة الإرشادية الزراعية في قطاع "الكفرون" ونواحيها إلى أن اللجان الزراعية النهائية، أحصت العدد الكلي للأشجار المحروقة وبلغ 15877 شجرة منها 242 شجرة من الأشجار المتفرقة وما تبقى شجر زيتون، أما عدد الأسر المتضررة بشكل مباشر فقد بلغ 248 عائلة.

ولفت "علي" إلى الدور الذي قامت به كوادر مديرية الزراعة في المحافظة منذ اللحظات الأولى لحدوث الحرائق بحسب الإمكانيات المتوفرة، من تأمين غراس الزيتون والرمان، وتقديم تعويضات مالية على ثلاث دفعات، إضافة إلى قيام الوحدات الإرشادية بعقد ندوات تعنى بتعليم الفلاح كيفية التعامل مع الشجرة المحروقة بعدم قطعها، بل معالجتها حسب مقدار التلف، وكانت النتائج - حسب قوله - جيدة حيث عادت الحياة لأكثر من 70% من الأشجار، ومن المتوقع أنه في غضون ثلاث سنوات سيدخل بعضها حيز الإنتاج.