يشتهر أهالي مدينة "حلب" بتجهيز مفروشات منازلهم ومدّه بالسجاد المتنوّع سواء أكان من الصناعة المحلية أم المستوردة، ويعدُّ السجاد من أساسيات بيت الزوجية، يمدُّ شتاءاً ويلفُ وفق أصول متعارف عليها صيفاً، وقد تصاب أي سجادة بالعطب في جزء منها نتيجة سوء التخزين الطويل ما يؤدي إلى تلف كليّ أو جزئيّ، وهنا يبدأ صاحبها بالبحث عن معلم (الرتي) لإعادة القطعة إلى شكلها الطبيعي.

كان الأمر متاحاً قديماً مع وجود الكثيرين من أهل كار (رتي) السجاد والألبسة، أما اليوم فقد اختلف الوضع، فبسبب صعوبة العمل بهذه المهنة ابتعد الكثيرون عنها حتى كادت تنقرض لولا قلة قليلة ما زالت تعمل بها.

لم يعد هناك من يرغب العمل بهذه الحرفة سوى واحد أو أثنين، وأنا حريص كل الحرص على تعليم أولادي وأحفادي هذه المهنة الجميلة، ولكن أغلب هذا الجيل ليس لديه الصبر والطاقة للمثابرة عليها وميولهم متجهة نحو العمل بالأجهزة الالكترونية الحديثة

مع شيوخ الكار

موقع مدوّنة وطن "eSyria" جال وبحث طويلاً في مدينة "حلب" عن (رتى) للألبسة وبالكاد عثرنا على رجل سبعيني في مدخل حي "التلل"، ورغم تقدمه بالعمر إلا أنه ما زال يمارسها ومحافظاً على المهنة وأسرارها ويرفض التقاعد والجلوس بالمنزل بلا عمل.

(رتى) الالبسة "إبراهيم الصغير" حي "التلل"

يقول (الرتى) "إبراهيم صغير" الملقب "بأبي عيسى" للمدوّنة:

«تعلمت مهنة رتي الألبسة على يد معلمي "عارف ضومط" وهو كان من شيوخ الكار القلائل في المدينة، وبقيت تحت يده سنوات أراقب حركات يده ومسكه للإبرة والخيط وطريقته في (رتي) الألبسة المتنوعة وبمهارة فائقة، كان يعيد الطقم أو أي قطعة قماشية ممزقة إلى وضعها الطبيعي ويصعب أن يستطيع أحد تمييزها على أنها قطعة (مرتية)، مهنتنا تختص حصراً بـ(رتي) الأقمشة من (لباس الطقم المؤلف من البنطال والجاكيت - القميص- الكلابية- والمعاطف) وهي صعبة جداً وتتطلب ممن يمارسها أن يكون قد أحبها أولاً وهادئاً وطويل البال ثانياً، قد نحتاج يومين وأكثر لـ(رتي) قطعة قماشية لا يتجاوز طولها عشرة سم».

مختلف أنواع السجاد داخل المحل

وعن الأدوات المستخدمة يشير (الرتى): «أدواتنا الرئيسية هي الإبرة والكشتبان والخيط والمقص، وهي أدوات لا تحتاح للكهرباء لكننا نحتاج للنور القوي في عملنا، ولذلك في ظل انقطاع الكهرباء الطويل أسحب أدواتي وكرسيي لخارج المحل للعمل بمساعدة نور الشمس.. كما أنه لا يجوز استخدام أي خيط فمن أصول المهنة أن نقوم بسحب، أو كما يقال (ننشل) خيطاً من نفس القطعة المراد (رتيها) دون أن نسبب أي أذى لها، ومفهوم (الرتي) هو عملية توصيل القماش ببعضه بخيط بواسطة إبرة خاصة، ونجاحه يعتمد بالدرجة الأولى على جودة ونوعية القماش، وهناك فرق كبير بين مهنة (الرتى) والخياط فما يعمله (الرتى) لا يقدر عليه الخياط ومهارة (الرتى) تكون بإعادة تصليح القماش من نفس خيط القطعة ويصعب على الشخص حتى بالعين المجردة إدراك أن هذه القطعة قد تم (رتيها).. ويعد أولاد "اللؤلؤ" في "حلب" من أشهر من اشتغلوا بالمهنة التي للأسف باتت قاب قوسين من الانقراض وليس لأحد رغبة في تعلمها لصعوبتها وقلة مردودها المادي، وبقيت وحيداً في المدينة ونظري بدأ يضعف وقد أغلق محلي في أي لحظة بناءً على نصيحة أطباء العيون».

(رتي) السجاد

انتقلت المدوّنة من حي "التلل" باتجاه حي" الميرديان" نحو (رتى) السجاد "عمر رواس" الذي روى لنا ممارسته لهذه المهنة التي تعلمها من والده قائلاً: «مهنة (رتي) السجاد متأصلة وعريقة لدينا من أيام محلنا بسوق المدينة، ووالدي من أوائل الذين مارسوا المهنة بمدينة "حلب" على مدار أكثر من ستين عاماً وبالعادات والتقاليد المتوارثة تعلمناها من والدي وشقيقي الأكبر "إسماعيل"، وفي سوق المدينة اشتهر معنا أولاد "القلعة جي" و"البوشي" و" الشغالة" و" الحمامي" و"المصري" بـ(رتي) السجاد العجمي والوطني، لكن بسبب الحرب ترك أغلبهم ممارسة المهنة وبقيت شبه وحيد ونقلت محلي من "خان الصابون" إلى "طلعة الميرديان"، وهمي المحافظة على هذه الحرفة المهمة من الاندثار والضياع فمدينة "حلب" لها تاريخ عريق بإصلاح و(رتي) السجاد الغالي والنفيس، وكلنا بات يعرف القيمة المادية المرتفعة لثمن السجادة وخاصة إذا كانت من النوع العجمي فهي غالية جداً وبقياس ستة ضرب ستة يفوق سعرها المليون ليرة وأكثر» .

سلة الخيطان التي تستخدم لـ(رتي) السجاد

يشرح "رواس" بعض أنواع السجاد الموجود في أغلب المنازل وهو مؤلف من ثلاثة أنواع هي، المحلي المتمثل بالحلبي والمعراوي، وشغل معمل "السويداء" والأغلى المستورد العجمي المصنوع بـ"إيران"، وهناك نوع مصنوع بالأناضول وصيني وأفغاني.

أسرار الحرفة

يستعرض الحرفي "رواس" في حديثه تفاصيل العمل بدءاً من استلام القطعة وحتى تسليمها للزبون : «تأتينا الكثير من قطع السجاد وقد أصاب جزء منها التلف أو الرطوبة الزائدة أو الحريق أو العت أو متآكلة من الحشرات، ومهمتنا معاينة الجزء التالف بدقة ووضع الحلول المناسبة له، مثلاً يكون التلف في وسط رسمة أو نقشة السجادة وهنا يتوجب علينا وضع السجادة على النول واستخدام خيط "سدا"من نفس النوعية و(رتي) السجادة وإعادة الرسمة أو الكتابة المفقودة، وبعض أنواع السجاد يكتب في وسطها أسماء أو أبيات شعر أو حكمة أو قصة ما، وهنا تكون المهمة إعادة الرسومات والكتابات لوضع السجادة الطبيعي،

وفي حال لم نعثر لها على خيط مناسب من السجاد البالي لدينا نقوم بصبغ خيط جديد من نفس اللون.. أدواتنا هي المخرز والكشتبان والمقص والدفن والجنكل، وحرفتنا صعبة، فـ(رتي) قطعة صغيرة من السجادة يحتاج أحياناً لشهر».

ويختم "الرواس" حديثه للمدوّنة في مدينتا: «لم يعد هناك من يرغب العمل بهذه الحرفة سوى واحد أو أثنين، وأنا حريص كل الحرص على تعليم أولادي وأحفادي هذه المهنة الجميلة، ولكن أغلب هذا الجيل ليس لديه الصبر والطاقة للمثابرة عليها وميولهم متجهة نحو العمل بالأجهزة الالكترونية الحديثة».

تمت اللقاءات والتصوير بتاريخ التاسع من شهر كانون الأول لعام 2021 بـ"التلل" و"الميرديان".