حرفةُ "خراطة الخشب" تعدُّ من أقدم وأهم المهن التي عمل بها وأتقن صنعتها أهالي حلب منذ أكثر من ثلاثة قرون، وذاع صيتهم وشهرتهم بهذه الحرفة داخل وخارج حدود مدينتهم لما تميّزوا به من تقانة وجودة وفن، وخصوصاً أنّ تعلّم هذه الحرفة ليس بالأمر السهل بل يحتاج راغبها لفترة زمنية وخبرة وحبّ واندفاع بغية إتقانها بمهارة.

موقع مدوّنة وطن "eSyria" زار "سوق العريان" بمدينة "حلب" ومحلاته المنتشرة داخله والمتخصصة بحرفة خراطة الخشب واستمع من بعض العاملين بهذه المهنة إلى تاريخها وعراقتها.

قوالب المعمول والعجوة والكرابيج وفحل البقلاوة ودقاقات الثوم واللحمة ونصاب القدومة والمنجل والسكاكين والبلطة وكساحة القطن وأرجل الديوانات والخزائن والطاولات والكراسي

في سوقِ "العريان"

عند تجولنا داخل "سوق العريان" الضيّق والأثريّ، العتيق والمرصوف بالحجر البازلتي الأسود والقريب من "حي باب الحديد"، صادف دخولُنا وصولَ التيار الكهربائي بعد انقطاع، وفوراً أقلعت المخارط الخشبية في كل المحلات مع تركيب القوالب المطلوبة ليترافق ذلك مع أصوات الخشب.

"مازن تومان" حرفي مهنة خراطة الخشب في سوق العريان

البداية كانت مع أقدم العاملين بـ"سوق العريان" الحرفي "محمد تفنكجي" خمسة وستون عاماً: «(خراطة الخشب) مهنة قديمة وعريقة، اشتهر بها أهالي "حلب" وتحديداً داخل هذا السوق الذي كانت الحركة لا تهدأ في المحلات المتلاصقة والمنتشرة هنا مع وجود الزبائن للبحث عن طلباتهم.. تعلّمت المهنة وأنا شاب يافع، وخلال وجودي في المحل كان يطلب مني والدي جمع نشارة الخشب ووضعها داخل الأكياس ومساعدته في تنزيل حمولة الخشب الواصلة من المنشرة ومن ثم صفها وترتيبها داخل المحل، بينما يكونُ منهمكاً بتفصيل وشغل طلبات الزبائن المتعددة والمتنوعة».

أساسياتُ المهنة

انطلقت أساسيات مهنة (خراطة الخشب) سابقاً من شراء الخشب الخام من أنواع الحور والزان والمشمش، حيث يقوم صاحب المهنة بالتواصل مع تجار الخشب الخام سواء داخل "حلب" أو خارجها بالمحافظات الأخرى من أجل شراء الكمية التي يرغبها، وبعد الاتفاق على الكمية ودفع سعرها تشحن إليه بواسطة آليات خاصة، ليقوم بعدها بالتفاوض مع صاحب منشرة خشب داخل المدينة لقصها وتنعيمها وتفصيلها إلى أنواع وأحجام حسب ما يلزمه ويتناسب مع حاجات وطلبات زبائنه، وعند وصولها للمحل يبدأ معلم المخرطة باستلامها وشغل النماذج المطلوبة منه على المخرطة.

نماذج متنوعة من المخروطات الخشبية للحاجات المنزلية

وحسب ما يقول "تفنكجي": "فقد تبدل الوضع اليوم فلا داعي للذهاب لمحلات شراء الخشب الخام فكل الطلبات والأحجام والأنواع جاهزة ومتوافرة ومستوردة لدى تجار الخشب وأغلب الخشب روماني أو برازيلي، يذهب صاحب المخرطة إلى تلك المحال ويفاوض تجار الجملة على ما يلزمه لشراء الكمية والنوع".

طلباتُ السوقِ والزبائن

يؤكّد الحرفي "تفنكجي" أنّ المهنة تحتاج لفن وإبداع وحبّ وانتباه، حرصاً على سلامة من يقف على المخرطة، وهي مهنة لها أسرارها، فأحياناً تتم خراطة الخشب وفق (كتالوجات) ونماذج صعبة ومعقدة وخاصة للمفروشات المنزلية، فيأتي الزبون وبيده نموذج ويطلب تفصيل مئات القطع منه، إما بقصد التجارة أو لحاجته الشخصية، عدا عن الطلبات الروتينية التي يتم عملها لحاجات المنازل ومحلات صناعة الحلويات مثل :«قوالب المعمول والعجوة والكرابيج وفحل البقلاوة ودقاقات الثوم واللحمة ونصاب القدومة والمنجل والسكاكين والبلطة وكساحة القطن وأرجل الديوانات والخزائن والطاولات والكراسي».

المنشرة عنصر أساسي من مستلزمات مهنة خراطة الخشب

يقول الحرفي "تفنكجي": "يعتمد عملنا بشكل أساسي على وجود التيار الكهربائي فكل الآلات الرئيسية تعمل على الكهرباء وعند انقطاع التيار يتوقف كل شيء لدينا وتتجمد أشغالنا وهذا ما يضعنا في مواقف محرجة أمام زبائننا ويوقعنا في خسائر مادية يصعب تعويضها".

باتتْ مهددةً

في محل آخر يروي الحرفي "مازن تومان" علاقته بهذه المهنة ويقول: «تعلمت هذه المهنة منذ أكثر من ثلاثين عاماً على يد والدي الذي يعدُّ من كبار تجار وحرفيي هذه المهنة للوازم الموبيليا والأشكال المخرطية، وتابعت في الكار نفسه بعد وفاته، وأهم منتوجاتنا (الأراكيل - الشوبك - قوالب الكبة والعجوة - كراسي الأطفال - الغربال - التحف الشرقية الخشبية - لوازم ماكينات النسيج - طرحات الفطائر والأفران - وكل المسكات - شوبك المبرومة - دقاقات الزيتون - قوالب المشبك - وكل ما يلزم من نماذج)».

وتابع: "نعاني من غلاء أسعار الخشب وانقطاع التيار الكهربائي والتكلفة المرتفعة لإصلاح الآلات والمنشرة في حال حدوث أعطال فيها، وكل ذلك يهدد المهنة بالزوال فأغلب من يعمل بهذه الحرفة ورثها عن والده وأجداده".

فيما يقول الحاج "طه جديد": "معظم العائلة تمتهن وتتقن هذه الحرفة في حي "طريق الباب"، وفي السابق كان هناك إقبال على منتجات هذه الحرفة وطلبات إلى خارج القطر والدول العربية المجاورة، كما نحرص على تعليمها لأولادنا خشية الانقراض، وللأسف الحرفة في تراجع لأسباب كثيرة أهمها غلاء المواد الأولية وعدم توافر التيار الكهربائي وعدم رغبة الجيل الجديد في الإقبال على تعلمها".

تمّ إجراء اللقاءات والتصوير بتاريخ الخامس عشر من شهر كانون الأول لعام 2021 داخل "سوق العريان".