لم يكن التطوّر الذي نشهده اليوم عائقاً أمام استمرار العادات والتقاليد القديمة التي كان يتبعها أجدادنا القدماء في قرى الساحل السوري، بل ما زال الأبناء والأحفاد في بعض القرى الساحلية مواظبين على الاحتفال بالأعياد الدينية والاجتماعية وإحيائها في مواعيدها المحددة وبعاداتها القديمة بما يشمله ذلك من إعداد أطباق الطعام الخاصة بكل مناسبة.

أطباقٌ احتفاليّة

وتعدُّ قرية "دمسرخو" التي تبعد عن مركز مدينة "اللاذقية" 4 كم، من القرى التي حافظت على إحياء الأعياد الاجتماعية والدينية وإقامة الطقوس المتعارف عليها منذ القدم، وتحدثت "زينة رجب" إحدى سيدات القرية عن الأعياد القديمة التي لا تزال حاضرة وتقول: «حافظت قرية "دمسرخو" على إحياء الأعياد القديمة والحديثة، الاجتماعية منها والدينية وما زالت تحييها وفق التقاليد التي كان أجدادنا يقومون بها، فكان عيد الأضحى وعيد الفطر، وكانت الأعياد الميلادية التي تبدأ بعيد "البربارة" الذي يصادف يوم 17 كانون الأول على التقويم الغربي الموافق لـ 4 كانون الأول على التقويم الشرقي، وفي هذا اليوم يقوم الناس بطهي أي طبخة تحتوي على القمح تحديداًّ كالحبوبية الحلوة وهي عبارة عن قمح مسلوق مضاف له جوز وزبيب وشمرا ويانسون وسكر، فيما يقوم البعض الآخر بطهي الهريسة وهي عبارة عن حنطة مع فروج أو ديك بلدي حصراً، وبعد أسبوع يصادف عيد "الفارغة" وفي هذا اليوم يقوم الناس بسلق البرغل بعد أن يتم تشكيله على شكل دوائر صغيرة دون حشوها ويضاف لها الثوم والحامض ودبس الرمان ويطلق عليها اسم "زحيلوطات"، وبعد سبعة أيام يصادف عيد رأس السنة الميلادية وتكون "القليّة" يتم فيها قلّي الكبة أو الزنكل "العجين الفارغ".

أما عن عيد القداس فهو اليوم الذي تقدس به السيد المسيح في مياه نهر الأردن ويسمى بعيد الغطاس، وفيه يستحم الناس بمياه الآبار التي يمتلكونها سواء كانت المياه باردة أو ساخنة كما يزورون الأماكن المقدسة في الليل، وللماء خصوصية عظيمة لدى المسيحين عموماً ولدى المسلمين أيضاً فقد ذكر في القرآن "وجعلنا من الماء كل شيء حي"

"الخبيصة" و"القوزلي"

وتتابع "رجب" حديثها عن المناسبات التي تأتي بعد عيد رأس السنة الميلادية على التقويم الغربي فتقول: «يصادف في 6 كانون الثاني على التقويم الغربي يوم "الخبيصة"، وهي ليلة ميلادية يطبخ فيها الناس السميد بالسكر إما مع الماء أو الحليب لتصادف عيد رأس السنة الشرقية في 13 كانون الثاني ويطلق عليها اسم "القوزلي"، وفي هذا اليوم تجتمع العائلة والأقارب والجيران للاحتفال بقدوم العام الجديد، في الماضي كان الناس يشترون الذبائح لأجل هذا اليوم، أما في يومنا أصبح طبخ الفروج المحشي والمعجنات والكبة وغيرها من المأكولات لأجل هذا اليوم، ولا غنى عن حلويات العيد، وتبقى مائدة الطعام مفتوحة منذ العصر إلى ما بعد منتصف الليل، وفي اليوم التالي يخرج الناس لمعايدة الأقارب بدءاً من الأكبر سناً في القرية ومن ثم بقية الأقارب والجيران، وتوزع العيديات على الأطفال، وبمجرد أن يقدم لك طفل معايدة يجب منحه العيدية، وقديماً كانت العيدية فرنك أو فرنكين، وكانت "القوزلي" مناسبة للصلح بين المتخاصمين».

الكبة المسلوقة

وبعد احتفال أهالي القرية بـ"البربارة، الفارغة، القلية، الخبيصة، القوزلي" يأتي عيد مستقل يصادف يوم 18 كانون الثاني وهو عيد "القداس"، وعنه تقول "زينة" : «نحتفل في القرية بعيد تقديس السيد المسيح في نهر الأردن ويطلق عليه اسم عيد "القداس"، ويقوم الناس في نهاية يوم 18 كانون الثاني بتجهيز أكلة الكبة المحشية باللحم والبصل ويتم سلقها بعد الساعة الثانية عشرة ليلاً لأن الماء يكون مقدساً في هذا الوقت، ويضاف له الثوم ودبس الفليفلة والزيت، وتكون الضيافة الوحيدة التي يتم تقديمها للزوّار في هذا اليوم».

إسقاطٌ تاريخيٌّ

فيما يتحدث "هادي قنجراوي" مهتم بالموروث الشعبي عن الجانب التاريخي لبعض الأعياد: «يصادف عيد البربارة يوم 21 كانون الأول (غربي) ويعدُّ أقصر يوم في الشتاء، ويُقال "بالبربارة بيقصر نهارها"، ويلاحظ وجود نجم برج العذراء في السماء قبل بزوغ الفجر، وكون السنبلة مرتبطة ببرج العذراء لذا يكون القمح مرتبط بأغلب الأعياد المسيحية التي يحتفل فيها أهالي سورية، ليأتي بعد ثلاثة أيام يوم قيامة السيد المسيح ويصادف 25 من الشهر نفسه، ويسمى بالخبيصة حيث يصنع الناس كل الأكلات من السنابل والقمح، والذي يعدُّ اللحم المقدس للسيدة العذراء».

حلو العيد

وعن عيد "القوزلة" يقول "هادي": «يحتفل به أبناء المنطقة من آلاف السنين وهو قزلة النار ويعني اكتشاف النار، ويرجح أيضاً إنه القوة لموسى والذّلة لفرعون وناجم عن تجلي الله عز وجل لسيدنا موسى عليه السلام بهيئة نار هائلة، بحسب الآية في القرآن الكريم "إذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى، فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى، إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي"».

مناسباتٌ وتواريخ

ولقداس السيد المسيح يوم للاحتفال يقول "هادي": «أما عن عيد القداس فهو اليوم الذي تقدس به السيد المسيح في مياه نهر الأردن ويسمى بعيد الغطاس، وفيه يستحم الناس بمياه الآبار التي يمتلكونها سواء كانت المياه باردة أو ساخنة كما يزورون الأماكن المقدسة في الليل، وللماء خصوصية عظيمة لدى المسيحين عموماً ولدى المسلمين أيضاً فقد ذكر في القرآن "وجعلنا من الماء كل شيء حي"».

الزحيلوطات

ويختم "هادي" حديثه بالقول «تعدُّ "سورية" حالة تاريخية مميزة فقد عاصرت ثلاث حضارات قديمة وهي الأوغاريتية والسومرية والفراعنة، وكان لديهم مسير صيفي وشتوي يظهر حالة الطواف أو الحج، وما زال أهل القرى يسعون شتاءً باتجاه مكان يدعى "قمودية" وهو مكان قيامة وانتفاض العنقاء وصعودها باتجاه عرشها في جبل صافون، فيما كانوا يسعون في الصيف باتجاه عين الحياة الموجودة في مدينة "بسنادا" حالياً، حيث كانت هناك قنوات تنقل الماء ممتدة من العين إلى المملكة».