يُقال إنّ "إنكلترا" هي أوّل من أنشأ فكرة الطوابع والرسائل البريدية، وكان ذلك في عام 1837 من خلال إصدار أول طابع بريدي حمل صورة الملكة "فيكتوريا، أما عربياً فتعدُّ "سورية" من أوائل الدول العربية التي عرفت وطبقّت وفعّلت نظام استخدام الرسائل البريدية والطوابع، ولكن نظراً لضعف الأرشفة والتوثيق قد يصعب الحديث عن تاريخ استخدام الطابع" السوري"، ورغم وجود عدة مقالات ودراسات حول ذلك ولكن أغلبها يظلُّ في إطار الاجتهادات والأبحاث الفردية لهواة الطوابع لا أكثر.

150 عاماً

يُقال إنّ "سورية" عرفت الطابع البريدي في عام 1863 خلال الاحتلال العثماني، أي قبل أكثر من مئة وخمسين عاماً حيث صدرت الطوابع "السورية" في وقتها، وتمّ تفعيلها واستخدامها وتطوير شكلها ورسوماتها خلال تلك المراحل والأزمنة المتلاحقة من السنوات والعقود الماضية المنصرمة، وفي عام 1961 صدرت الطوابع "السورية" واستخدمت بشكل فعلي وحملت في وسطها اسم "الجمهورية العربية السورية"، لتتطور وتنشط بعدها حركة الرسائل البريدية بشكل متسارع من خلال قيامها كوسيلة شبه وحيدة مع الهاتف بنقل الأخبار بين الأهالي والأقارب والجيران والطلبة والمسافرين داخل البلد وخارجه إلى مختلف دول العالم، حتى باتت بعض الأسر تنتظر بشوق ولهفة وصول (المكتوب).

أذكر أنه قمنا في تلك الفترة بإحصاء عددها حيث قارب الثلاثين صندوق بريد كان يخصص لها موظفٌ خاصٌ من المؤسسة لديه مفاتيح لتلك الصناديق مع سيارة جوالة، حيث يقوم بفتحها يومياً وجمع الرسائل المتراكمة فيها ويأتي بها إلى المؤسسة لإعادة فرزها وتوزيعها من جديد، حيث توضع بأكياس وترصّ ويوضع عليها ختم المديرية ثم تنقل إلى سيارات الشحن المتجهة للمدن الأخرى

موقع مدوّنة وطن "eSyria" زار المؤسسة العامة للبريد بمدينة "حلب" والتقى بعض العاملين هناك، وبعضاً ممن عاصر وعايش تلك الحقبة الجميلة ولو في أواخرها، واستمع من المتحدثين عن مراحل العمل اليومية السابقة التي كانت تتم باستلام الرسائل البريدية والطرود وطرق وأساليب نقلها وتوزيعها داخل المدينة وخارجها، قبل أن تأتي مرحلة انقراض جزء كبير منها وخاصة الرسائل الشخصية.

صندوق البريد الأحمر مع الرسائل أيام زمان

المكتوبُ الجميل

مدير البريد صلاح بشير ، دكتور فؤاد نعمة

مدير بريد "حلب" الحالي "صلاح بشير" يقول: «توظفت في مؤسسة البريد قبل ثلاثين عاماً بصفة رئيس شعبة، وكما علمت فقد كان موقع مركز بريد "حلب" بجانب مخفر شرطة النجدة "بحي التلل" في مستودع قديم قبل أن يجهّز وينقل البناء بأكمله للموقع الحالي بحي "الجميلية"، وعاصرت وشاهدت تماماً تلك الفترة التي كانت فيها الرسالة وكما يسميه أبناء "حلب" (المكتوب)، من لحظات انتظار صاحبه أو بالعكس من خلال تسليمه ووضعه بصندوق البريد الأحمر، ومن الممارسة الدائمة بات الكل يعرف ويتوقع بدقة مواعيد الزمن اللازم لوصول أو استلام رسائلهم وحسب المكان والمدينة».

ويضيف: «كانت المؤسسة في حالة استنفار لإنجاز خدمات الرسائل حيث يبدأ العمل في الساعة السادسة صباحاً ويستمر بنفس الوتيرة من الحماس حتى انتهاء الدوام الرسمي، وكانت هناك فترة دوام مسائية لإتمام مراحل العمل، وجوهر عملنا كان يعتمد على فرز الرسائل والطرود القادمة وحسب عناوينها وتسليمها لكل ساعي بريد حسب مكان عمله ليقوم بدوره بتسليمها لأصحابها، والجانب الآخر كان جمع الرسائل المرسلة وتكييسها وإيصالها إلى شركات النقل التي تقلها إلى "دمشق"، والآن تبدل الحال وخاصة الرسائل الشخصية حيث نقلت بشكل أوتوماتيكي للأجهزة الشخصية الحديثة "الجوال" لكل فرد منا، واقتصر عملنا على الرسائل البريدية العائدة للمؤسسات الحكومية والتبليغات العدلية، كما أضيف لعملنا خدمات ومهام جديدة لخدمة المواطنين من خلال تجهيز صالة حديثة مؤتمتة تهتم بتوزيع رواتب المتقاعدين والعسكريين، واستخراج الثبوتيات العائلية مثل (غير محكوم والبيانات العائلية للولادة والزواج والطلاق والوفاة)، ومع تطور العمل توسّعت دوائرنا وتم افتتاح مراكز بريدية فرعية في كل أحياء المدينة والمدن الريفية لتسهيل وتقديم الخدمات للأخوة للمواطنين».

صندوق البريد بعد أن أصبح من الذكريات و طي النسيان

بشائر السعادة

مدير مركز بريد الجامعة "أحمد وردة" يقول: «بعد تخرجي من معهد البريد والمواصلات في "دمشق" عام 1980، تمّ فرزي لقسم الطرود بحي "الجميلية" حيث عملت وعاصرت تلك الفترة الذهبية للرسائل البريدية بكل تفاصيلها، والتي كانت تبدأ من قسم المسجلات والطرود لأجل فرز الرسائل القادمة إلينا من المحافظات والدول الأخرى، والرسائل كانت نوعين عادية يقوم ساعي البريد بتسليمها حسب العنوان المدون، والثانية مسجلة لها رقم وسجل ولا تسلّم إلا بموجب الهوية الشخصية لصاحبها، كنا نقوم بفرز الرسائل بواسطة عشرات الموظفين وحسب العناوين للأحياء الشعبية والنوادي والمؤسسات الحكومية، ويتم ترجمة عناوين الرسائل المدونة بلغة أجنبية، وتوضع كل رسالة بعد الفرز في الكوة الخاصة بها، ليأتي بعدها ساعي البريد ويقوم باستلام رسائل حيه بعد توقيعه على عددها، وكل ذلك يجب أن ينتهي قبل الساعة الثامنة صباحاً، ليستقل بعدها دراجته العادية والمجهزة بسلة معدنية أمامه أو خرج بين قدميه ويذهب ببريده إلى الحي الخاص به».

ويتابع "وردة" حديثه بالقول: «أذكر أنه كان لدينا في مدينة "حلب" أكثر من ستين ساعي بريد يغطون أغلب أحياء المدينة، وكانوا يتمتعون باللطف والود والعلاقة الطيبة مع أهالي الحي، ومع كثرة العمل والترداد كانت تنشأ بينهم وبين أصحاب الرسائل وأهالي الحي مودة وتعارف وعلاقة اجتماعية، وكانوا يستقبلونهم بالابتسامة والفال الحسن ويستبشرون بهم خيراً لما تحمله لهم الرسائل القادمة من أخبار طيبة عن الأبناء والجيران وطلبة الجامعات الذين يدرسون خارج البلد وبمناسبات الأعياد .. عندما كانت تصلنا لمركز البريد رسائل غير ملصقة الطوابع عليها سهواً من صاحبها كنا إما نعيدها عن طريق ساعي البريد لصاحبها، وإذا كانت داخلية ورسومها خفيفة نقوم بلصق الطوابع اللازمة عليها من المتوافر والزائد لدينا، وأحياناً كان البعض يمتنع عن استلام رسالته إذا كانت تخص إنذاراً من الجمعيات أو دفع بدل الأجور المنزلية الموجهة له من المحكمة، وأيضاً بعض التبليغات، وهنا تأتي خبرة وفطنة وذكاء ساعي البريد بلعب دور الإقناع بضرورة تسليم الرسالة لصاحبها».

أسماء لا تنسى

وفي حديثه للمدوّنة يتذكر العامل "مهند بشير" كيف ظلت صناديق البريد ذات اللون الأحمر الفاقع منتشرة بكل أحياء المدينة حتى منتصف التسعينيات، وكانت توضع في كل المناطق الرئيسية والساحات لسهولة الوصول إليها من جميع أبناء الحي، «أذكر أنه قمنا في تلك الفترة بإحصاء عددها حيث قارب الثلاثين صندوق بريد كان يخصص لها موظفٌ خاصٌ من المؤسسة لديه مفاتيح لتلك الصناديق مع سيارة جوالة، حيث يقوم بفتحها يومياً وجمع الرسائل المتراكمة فيها ويأتي بها إلى المؤسسة لإعادة فرزها وتوزيعها من جديد، حيث توضع بأكياس وترصّ ويوضع عليها ختم المديرية ثم تنقل إلى سيارات الشحن المتجهة للمدن الأخرى».

ويعدد العامل بعضاً من أشهر العاملين بمهنة ساعي البريد في تلك الحقبة ومنهم "هاشم نزار زيبو" و"أحمد عز الدين" و"فياض مطر" و"أحمد صباهي" و"جمعة الحسين" والراحل"أحمد مدني مصري" (صاحب الصورة الرئيسية للمادة) و"زعزوع" و"أبو إبراهيم" و"حمشو" و"حسين دهشان" ورغم تقاعدهم الوظيفي جميعاً منذ مدة طويلة لكن الناس ما زالت حتى هذه اللحظة تذكرهم بالخير والبشائر المفرحة والجميلة».

ذكريات

الدكتور الجامعي "فؤاد نعمة" يقول: «الرسائل المكتوبة لها ذكرى جميلة ووقع خاص في نفسي، قدمت لي خدمات لا تنسى من نقل ملخصات وأبحاث جامعية، وفي الجانب العائلي كانت تصلني بعائلتي وتحمل لي البشائر والفرحة عندما كنت بالتسعينيات أحضر لرسالة الدكتوراه في "التشيك"، أتذكر كيف كنت أنتظر بلهفة وشوق وصول تلك الرسائل من أهلي وأصدقائي كي أطمئن عليهم وعلى أحوالهم، ومباشرة كنت أقوم بالرد وبكتابة رسالة جوابية، كانت للرسائل بخط اليد نكهة خاصة عندي، وتتفوق على أجهزة التواصل الحديثة مهما بلغت، وما زلت أحتفظ بالكثير من تلك الرسائل وأعيد قراءتها وأنظر إلى تواريخ تدوينها وتذكرني بكل الأصدقاء وأساتذتي وجيراني، وأسعد رسالة على قلبي عندما كتبت لأهلي عن نجاحي بمناقشة أطروحة الدكتوراه ولم يكن وقتها لا نقل ولا بثُّ مباشر والرسالة والهاتف كانا صلة التواصل الوحيدة لدي».

فيروزياتٌ بريديّة

وفي رحلة بحث مضنية قمنا بها داخل المدينة على مراكز البريد، لم نعثر سوى على صندوق واحد يتيم في مركز بريد "السليمانية"، وبدا بشكل مهمل وقد أكل الصدأ كل جوانبه وغيّر من شكله ولونه، وبباب مفتوح ومخلوع تتلاعب به الرياح كيف ما تشاء ولم تبقَ منه إلا الذكريات.

ولعلّ أجمل من خلّد قيمة الرسائل الكتابية كانت الفنانة الكبيرة "فيروز" عندما غنت:

"كتبنا وما كتبنا ويا خسارة ما كتبنا

كتبنا مية مكتوب

ولهلق ما جاوبنا"

وفي أغنية ثانية:

"يا مرسال المراسيل

عا الضعية القريبي

خدلي بدربك ها المنديل وعطيه لحبيبي"

تم إجراء اللقاءات والتصوير بحي "الجميلية" بمدينة "حلب" بتاريخ الخامس عشر من شهر تشرين الثاني لعام 2021.