اشتهر الساحل السوري ببيئته الطبيعية الغنية التي شكّلت مورداً مهماً لتأمين المواد الأولية اللازمة لقيام صناعات وحرف متعددة، توارثها الأبناء جيلاً بعد جيل، لكن مع تطوّر التكنولوجيا والصناعات المرتبطة بها، بدأت هذه الحرف التقليدية تواجه خطر الاندثار لقلّة عدد العاملين بها وعزوف الأجيال الشابة عن تعلّمها.

توالفُ البحر

بدأ الحرفي "محمود هلهل" حياته المهنية بالأعمال الصدفية لقربه من البحر وعشقه للحياة البحرية وموهبته في هذا المجال من العمل، فقام بتشكيل لوحات توثّق الكائنات البحرية ومفردات الشواطئ، ثم أخذ يعلمها لطلابه، لكنّ الفكرة تطوّرت ليبدأ بتشكيل لوحاتٍ رملية، استخدم فيها، إلى جانب الصدف، الرملَ البحري الذي يجمعه من الشواطئ، ثم بدأ بجمع التوالف البحرية واستخدمها لأول مرّة في الساحل السوري بأعمال يدويّة منها الطحالب البحرية والمرجان ونجم البحر والإسفنج والسرطانات وقنافذ البحر، والزجاج المصقول بفعل حتّ الأمواج، وحسك وعظام الكائنات البحرية والحصى وغيرها من مخلفات البحر التي يحتاج جمعها إلى جهود كبيرة، وفي أحيان كثيرة يتطلب الحصول عليها الغطس تحت مياه البحر، لأنه بمجرّد أن تُقذف إلى الشاطئ ستصبح غير ذات قيمة وتطمر في الرمال.

قلة الدخل دفعت جيل الشباب للتوجه نحو البحر كونه يؤمّن دخلاً مضاعفاً، ويساهم في اختصار الزمن لتأمين مستقبلهم، وهذا الأمر جعلنا نشعر بخطر اندثار هذه الحرفة التاريخية ما لم تتوارثها أجيالٌ متعاقبة، لتشكل جسرَ عبور آمن لهذه الصناعة نحو المستقبل، وفي ظل هذه المعطيات كان لا بدّ من القيام بعدّة خطواتٍ ضروريةٍ تساهم في الاستمرارية بصناعة المراكب، أهمها المتابعة مع الإخوة الحرفيين بميدانهم لمعرفة معاناتهم ومحاولة تذليل ما أمكن منها، إضافةً إلى وضع خطة عمل من خلال إنشاء وإحداث حاضنة للاستفادة من خبرة الحرفيين المتمرّسين، وتعليم وتدريب أجيال تضمن استمراريتها، وتتم المتابعة لتحقيق هذا الأمر بجديةٍ مطلقةٍ من قِبلنا كمنظمة، وما نحتاج لتحقيقه هو خطوات جادة من الحرفيين صنّاع المراكب لتبصر هذه الحاضنة النور، أيضاً ندعم ونتابع صناعة السفن الكبيرة المصنوعة من الحديد والصلب، وقد تمّ تعويم السفينة الأولى في مرفأ "بانياس"، والهدف من هذا التشجيع والمتابعة والدّعم يصبّ في إعادة هذه الصناعة إلى المهد الذي انطلقت منه السفينة الأولى على يد أجدادنا الفينيقيين

يقول الحرفي "هلهل" في لقائه مع مدوّنة وطن إن طلابه من الشباب واليافعين يتفاعلون بشكل كبير مع دروس تعليم هذه الحرفة، ومنهم من بدأ بشكل فعلي بممارستها.

لوحات من التوالف البحرية

وعلى الرغم من أنّ الكثير من الحرف أصبحت مهدّدةً بالزوال والانقراض لقلّة المهتمين بتعلّمها، ولقّلّة الاهتمام بإحيائها، إلّا أن حرفته لا يزال لها عشاقها من أبناء البحر يحافظون عليها، ولا يزال الساحل السوري يتميّز بها، الأمر الذي دفعه هو ومن يعمل بها إلى السعي للحفاظ عليها من خلال تعليمها، والمشاركة بما ينتجونه من لوحات فنية في المعارض التراثية التي تعنى بتقديم الأعمال اليدوية.

على طريقِ الحرير

ويعدُّ إنتاج الحرير من الأنشطة الزراعية والصناعية والاقتصادية التي كانت تحقق عائداً جيداً للكثير من العائلات في الساحل، كما كانت من الأنشطة التجارية التي لاقت ازدهاراً على طريق الحرير القديم، وعبر التاريخ احتوى الساحل السوري على العديد من المعامل الخاصة بإنتاجه أهمها معمل الحرير الذي تأسس في العام 1860 في "المشتى التحتاني"، ولا تزال آثاره شاهدةً على ازدهار صناعة الحرير في تلك الحقبة، لكن هذه الصناعة أخذت بالتراجع تدريجياً منذ سبعينيات القرن الماضي، بعد أن كانت تراثاً يميز الساحل بمختلف مدنه وقراه، وحالياً توجد قلّة قليلة يعملون بهذه الحرفة التي لا تزال خطوات الترويج لإعادة إحيائها خجولة جداً.

أطباق القش صناعة يدوية قديمة

كما شكّلت صناعة المراكب والسفن أيضاً هوية مميزة للصناعات التي اشتهر بها الساحل، وكان من أوائل من أنشأ هذه الصناعة هم الفينيقيون، وعبر التاريخ توارث الأحفاد حرفةَ الأجداد، ولا يزال أبناء "أرواد" يمارسونها من خلال صناعة مراكب الصيد والنزهة، إلا أن أعداد العاملين فيها أصبحت قليلة جداً، ومعظمهم الآن في عقدهم الخامس من العمر، والبعض منهم قد تجاوزه، وغالبيتهم لم ينقلوا هذه الحرفة إلى أبنائهم لأسباب متعددةٍ، منها ما هو متعلق ببعض القرارات التي تحتاج إلى تبسيط ومراعاة لاستمرار هذه الصناعة المهمة.

خطوات

يقول "منذر رمضان" عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الحرفيين في "طرطوس": «قلة الدخل دفعت جيل الشباب للتوجه نحو البحر كونه يؤمّن دخلاً مضاعفاً، ويساهم في اختصار الزمن لتأمين مستقبلهم، وهذا الأمر جعلنا نشعر بخطر اندثار هذه الحرفة التاريخية ما لم تتوارثها أجيالٌ متعاقبة، لتشكل جسرَ عبور آمن لهذه الصناعة نحو المستقبل، وفي ظل هذه المعطيات كان لا بدّ من القيام بعدّة خطواتٍ ضروريةٍ تساهم في الاستمرارية بصناعة المراكب، أهمها المتابعة مع الإخوة الحرفيين بميدانهم لمعرفة معاناتهم ومحاولة تذليل ما أمكن منها، إضافةً إلى وضع خطة عمل من خلال إنشاء وإحداث حاضنة للاستفادة من خبرة الحرفيين المتمرّسين، وتعليم وتدريب أجيال تضمن استمراريتها، وتتم المتابعة لتحقيق هذا الأمر بجديةٍ مطلقةٍ من قِبلنا كمنظمة، وما نحتاج لتحقيقه هو خطوات جادة من الحرفيين صنّاع المراكب لتبصر هذه الحاضنة النور، أيضاً ندعم ونتابع صناعة السفن الكبيرة المصنوعة من الحديد والصلب، وقد تمّ تعويم السفينة الأولى في مرفأ "بانياس"، والهدف من هذا التشجيع والمتابعة والدّعم يصبّ في إعادة هذه الصناعة إلى المهد الذي انطلقت منه السفينة الأولى على يد أجدادنا الفينيقيين».

البحثُ عن الاستمرارية

تتنوّع في الساحل الحرف والصناعات التراثية ذات الأهمية الفنية والاقتصادية، فهناك صناعة الفخّار التي بالرغم من أنها لا تزال موجودة في الريف الساحلي، إلّا أنّ العاملين فيها في تناقص مستمر، بعضهم يتّخذها فعلاً كوسيلة لكسب الرّزق، والبعض الآخر يصنعها كهواية وللعودة إلى نكهة طعام الأجداد المطهو بمقلي الفخار، أيضاً من الصناعات التي تعاني من قلّة العاملين ما يهدّد باندثارها هي صناعة أطباق القش، وهي من المهن المتعبة لما تحتاجه من جهد لتأمين سويقات القمح أثناء موسم الحصاد ومعالجتها وتشكيلها بأشكال مختلفة، ولا يزال هناك من يحاول جاهداً الحفاظ على هذه الحرفة وتعليمها للأجيال الشابة عبر بعض الدورات التدريبية.

ولأنّ الطبيعة الساحلية غنيّة بمواردها ظهرت صناعات حرفيّة كانت يوماً ذات أهمية كبيرة منها تقطير النباتات، وصناعة الصابون المستخلص من زيت الزيتون الممزوج بزيت الغار، وصناعة الأواني الخشبية أيضاً، وجميعها حرف تعاني أيضاً من قلة العاملين فيها، ما يهدّد بإمكانية اندثارها.

قيمةٌ جمالية

يرى "رمضان" أنّ هذه الحرف تشكّل جزءاً مهماً من التراث، وهي تنوّع حيوي وثروة مهمة لاعتبارات بيئيّة واقتصادية وعلميّة وثقافيّة وأخلاقيّة وجمالية، كونها تساهم في النظم البيئية، وتقدّم خدماتها للإنسان والطبيعة في المجالات كافة ويشدّد على أهمية إحيائها وحمايتها من الاندثار، إضافةً إلى أهمية الحفاظ على استمرار كلّ الصناعات والحرف المتوارثة، والتي هي جزء من حضارة "سورية"، سواء من خلال الترويج لها عبر البرامج التلفزيونية والمقالات الصحفية والمحاضرات المتخصصة في التراث، ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي، أيضاً إدخالها ضمن المناهج الدراسية في المدارس والجامعات والمعاهد، وفتح مراكز خاصّة بالتدريب المهني، كذلك دعم الصناعات المهددة بالاندثار كصناعة السفن والمراكب والحرير والفخار والقش، لأنها تعدُّ إرثاً له تاريخ ثقافي وحضاري عريق، وإدارة الموارد الطبيعية التي تشكّل المورد الأساسي للمواد الأولية اللازمة لهذه الحرف، وإحداث أسواق خاصّة للحرف والمهن اليدويّة، تكون بمنزلة معرضٍ دائمٍ ومعلَمٍ سياحيّ يقصده الزائرون.