تعدُّ البيوت الحلبية المنتشرة في أزقة وأحياء مدينة "حلب"، من أهم المعالم الحضارية للمدينة لما لها من جاذبية وجمال، فهي تشكّل الجزء الأكبر من نسيج المدينة العمراني والتاريخي والتراثي، وما زال بعضها شاهداً وحاضراً على غنى وازدهار حقبة زمنية مرت على المدينة، ما انعكس على شكل وفخامة وتصميم تلك البيوت، التي يرجع أغلبها إلى عهد الاحتلال العثماني، ويندر وجود بيوت تعود إلى ما قبل تلك الفترة، عكس حال الأوابد والمعالم الأثرية الدينية والخدمية التي تعود إلى فترات زمنية عديدة والطرق التي بناها الرومان لأجل خدمة مصالحهم التجارية، حيث طرأت عليها العديد من التغييرات نتيجة العصور المتلاحقة.

في باب "أنطاكية"

موقع مدوّنة وطن "eSyria" وللاطلاع عن كثب وبالعين المجردة على نموذج واقعي من تلك البيوت الحلبية القديمة زار حي "باب أنطاكية" الأثري برفقة طالبة الباحثة د. "مروة مارديني"، حيث جال وشاهد واستمع لشرح مفصّل عن خاصية تلك البيوت الحلبية القديمة من صاحب أحد هذه البيوت والدليل السياحي "عبد الحي القدور".

جرى بناء البيوت الحلبية القديمة بطريقة متناغمة ومتناسقة تدل بوضوح على مدى الإبداع الفني الجميل الذي وصلت إليه العمارة الحلبية، فهي تتميز بباحتها الواسعة التي تحيط بها أماكن للاستقبال والمعيشة اليومية وأخرى للنساء ومؤونة البيت والطبخ، كما تمتاز بأسقفها وكسوة جدرانها الخشبية ذات الزخارف البديعة، والحجارة المنقوشة بأجمل الزخارف والتي توضع بشكلٍ رئيسي أعلى فتحات النوافذ والمداخل

البداية كانت من حديث المهندسة "مارديني" حيث تقول: «جرى بناء البيوت الحلبية القديمة بطريقة متناغمة ومتناسقة تدل بوضوح على مدى الإبداع الفني الجميل الذي وصلت إليه العمارة الحلبية، فهي تتميز بباحتها الواسعة التي تحيط بها أماكن للاستقبال والمعيشة اليومية وأخرى للنساء ومؤونة البيت والطبخ، كما تمتاز بأسقفها وكسوة جدرانها الخشبية ذات الزخارف البديعة، والحجارة المنقوشة بأجمل الزخارف والتي توضع بشكلٍ رئيسي أعلى فتحات النوافذ والمداخل».

أرضية الإيوان بعد رصفه على طريقة المربعات والتناظر

وتضيف "مارديني": «ارتقى بناء البيوت الحلبية ووصل لقمة الإبداع والجمال وتشهد على ذلك عشرات البيوت المنتشرة في أحياء المدينة القديمة، بمساحاتها الواسعة حيث تحوي صحونها غرفاً على طرف واحد أو طرفين، في حين أن البيوت الكبيرة تحيط الغرف صحونها من ثلاث جهات، وقسم من هذه الغرف مشيّد على طابقين، كما نجد فراغات تحت الأرض على شكل أقبية، ومعظم البيوت الكبيرة تشبه القصور، وتبلغ مساحة البيت الواحد منها وسطياً تسعمئة متر مربع تقريباً، ولبعض هذه القصور ثلاثة صحون أحدها للرجال وهو القسم المعدُّ لاستقبال الضيوف، والثاني لسكن العائلة والثالث للتخديم، ويمكن تقسيم بيوت السكن في حلب القديمة إلى ثلاث فئات (السرايا والقصور- بيوت التجار والأغنياء – بيوت الطبقة المتوسطة والناس العاديين)، وتتمتع عمارة البيوت الحلبية في بنائها بالقيم الجمالية الأخّاذة عن طريق التصميم الذي جاء ملبياً للقيم الوظيفية والجمالية معاً».

خصوصيةٌ وأسرار

جرى بناء البيوت الحلبية القديمة حسب ما توضح "مارديني" بما ينسجم مع أسلوب الحياة الاجتماعية التي عاشها أهل المدينة بالاعتماد على الجماليات والتقاليد الإسلامية، وأولها أن النوافذ تكون مفتوحة للداخل بعكس البيوت الغربية حيث النوافذ مفتوحة للخارج، فالبيت الحلبي هو مملكة الفرد له خصوصيته وأسراره، كما أن الجدران الخارجية تكون مرتفعة بسبب النزعة الشرقية الروحية من العابر والجار فهي صماء كسور ممتد، وتتشابه بهذه الخاصية جميع البيوت، إضافة إلى بساطة المدخل حيث يليه ممر منكسر ليمنع ويحجب رؤية من في الداخل، أما في حال اتخاذه شكلاً مستقيماً، هنا يلجأ صاحب البيت لتركيب ستارة، وبهذا يتكون البيت الحلبي من نموذج منفتح نحو الداخل ومنغلق نحو الخارج، ويمثل الصحن المكشوف نواته التي تصطف حولها الغرف ذات النوافذ المطلة على الصحن من أجل تأمين التهوية ودخول أشعة الشمس، وبهذا هناك وظيفتان للصحن الأولى توزيعية حيث يتم الانتقال منه إلى الغرف، والثانية تجمعية حيث يلتقي فيه كل أفراد الأسرة، وعادة يصمم البيت الحلبي على شكل طابقين أرضي وعلوي ويسمى (المربع) يتم الصعود إليه بدرج مكون من أحجار مرتفعة صفراء اللون، ودائما نجد في الصحن أحواضاً للزرع، وفي وسطه حوضٌ للماء، تجاوره في بعض الأحيان مصطبة تظللها عريشة وعلى المصطبة يجلس بعض أفراد الأسرة والموسيقيين ويشربون الشاي والقهوة وحول تلك المصطبة تزرع أشجار ذات ثمار مثل الليمون والكباد والبرتقال.

الشوارع الحجرية الضيقة مقابل البيوت الحلبية

زخارفُ فنيّة

الدليل السياحي عبد الحي القدور يشرح للمهندسة مارديني ومراسل المدوّنة بحلب خصائص البيت الحلبي

وتتابع الباحثة "مارديني" شرحها عن باقي تفصيلات البيت الحلبي بالكلام: «هناك الإيوان المرتفع على طابقين، الذي يتوضع في الجهة الجنوبية وينفتح نحو الشمال للاستفادة من الظل والهواء المعتدل وللوقاية من حرارة الشمس، ويعد نقطة جذب لعين الزائر للبيت الحلبي لما فيه من غنى زخرفي خاص بالإيوان، وهناك أيضاً القاعة وتُصمم غالباً على شكل حرف T تحيط بعتبة مركزية مربعة مبلطة بالرخام بأساليب زخرفية بديعة، وتتوسط العتبة فسقية، وتُغطى القاعة بزخارف خشبية ملوّنة ذات مشاهد طبيعية وكتابات قرآنية أو أشعار جميلة، يلي ذلك رصف الأرضيات بلوحات جميلة ذات مستوى إبداعي، ويعتمد بلاط الأرضيات على التكرار أو على اجتماع كل أربع بلاطات بحيث تتشكل لوحة فنية رائعة بألوان جميلة وزخارف غنية، ويزيد كل ذلك جمال الإكساء الخشبي للأسقف والجدران، حيث يتم صف الألواح الخشبية بأسلوب يعتمد على التكرار المنتظم حيناً والمتنوع حيناً آخر، كما يعتمد على التناظر، وتُصف هذه الألواح بشكل ملفت للانتباه بألوانها وتشكيلها، وتعالج زوايا السقف الخشبي بمعالجات تزيينية فائقة الجمال، وفي البيت الحلبي -كما تشير الباحثة- نوعان من النوافذ علوية وسفلية، منفتحة على صحن البيت تغلق السفلية منها بدرف خشبي».

وتختم الباحثة حديثها بالإشارة إلى إبداع المعمار الحلبي في التشكيلات الزخرفية المنقوشة على الحجارة التي تعلو الفتحات الداخلية، وتلك التي تزيّن تيجان الأعمدة والتي تشكل آيات من الإبداع والجمال، وتختلف في موضوعاتها الزخرفية بالرغم من وحدة أسلوبها.

الحاجةُ للترميم

الدليل السياحي "عبد الحي القدور" تحدث عن جمال ومكونات البيت الحلبي بالقول: «جمالية البيوت العربية القديمة وفخامتها مرتبطتان بغنى ورخاء الأهالي، وخاصة خلال فترة الاحتلال العثماني نتيجة حركة عبور التبادل التجاري من "إسطنبول"وباقي المدن الأخرى، حيث كانت في مدينتي "حلب" و"دمشق" أسواقٌ مهمة لترويج البضائع ما انعكس على الوضع المادي للأهالي وبنائهم بيوتاً فخمة وواسعة استخدم فيها أفضل أنواع الخشب والحجر الكلسي لتزيين الواجهات والأرضيات والنوافذ والإيوانات والمربعات، فالبيت الحلبي هو بيت الطمأنينة والسلام والهدوء والراحة النفسية للنظر والجسد والروح والمحفز لتوليد الطاقة الإيجابية، وهو مصمم على خصوصية الإغلاق من الخارج والفتح نحو الداخل، وتحتوي أغلب هذه البيوت على آبار ونوافير ماء وأحواض، وتم استخدام الحديد الخام في صب القواعد والنوافذ و"الدربزونات" عكس الأدراج المرصوفة ومساندها الخشبية، وللأسف الغالبية من تلك البيوت العتيقة في أحياء "باب الفرج والمشارقة والقصر البلدي" التي فيها تاريخنا وحضارتنا لم يتم الحفاظ عليها بالشكل الأمثل حيث طالتها آلة البناء والفوضى التجارية والمادية، ما يتطلب الحفاظ على ما تبقى منها وترميمها، والعمل على الترويج والتسويق والاستثمار الصحيح لها من قبل الجهات السياحية ودعوة (الكروبات) من مختلف دول العالم الراغبة بزيارة آثارنا وبيوتنا ومتاحفنا.. قبل الأزمة كانت وزارة السياحة تشارك بأربعين معرضاً عالمياً للتعريف بحارتنا، وفي بعض الأحيان كنا نعتذر عن الاستقبال لكثرة الضغط علينا الذي كان يفوق قدرتنا على الاستيعاب، ومع ذلك رغم كل المعوقات يمكن لنا العودة من جديد لأن حضارتنا وعزيمتنا باقيتان».

جرى اللقاء والتصوير بحي "باب أنطاكية" الأثري بتاريخ السادس من شهر تشرين الثاني لعام 2021.