عبر مسيرة حياته التي امتدت لـ92 عاماً، كان الشيخ الراحل "علي عيدو" حريصاً على نقل معارفه للناس بأسلوبه الشائق، وهو الذي عشق المعرفة ونهل مما تركه فلاسفة العالم حتى النادر من ذلك، علّم قراءة القرآن لكلّ من أراد، ونشر الثقافة وحبّ الإنسانية، وحكم بين الناس بالعدل، عُين واعظاً فخرياً من هيئة الطريقة والثقافة الدينية لـ"سورية" وبقي فيها حتى وفاته.

جذورٌ أصيلة

يذكر الباحث الأدبي والسياسي "مهدي الشعراني" لمدوّنة وطن أن أصول عائلة "عيدو" تعود لمنطقة "الجن دالية" في "لواء اسكندرون" التي تقع شمال غرب "سورية"، حيث غادر الجد "علي عيدو" بعد مضايقة الأتراك له في منتصف القرن التاسع عشر، ليستقر في "سلمية" وحصل كغيره على أرض وأقام في الحي الشمالي منها، وتزوج نجله "قاسم" من "عائشة صافي" التي أنجبت الشيخ "علي".

عندما بلغت الخامسة من عمري أرسلتني والدتي لتعلّم القرآن عند جارنا الشيخ "علي عيدو" وبقيت عنده ثلاث سنوات، كان الراحل تقياً ورعاً، يحكم بين الناس بالعدل، كريماً يقدّم الطعام لكل من يقصده ثم يحلّ له قضيته، وله طريقة محببة في نثر الحكمة وتبسيط المعلومة وتقريبها للذي يخاطبه، بهدوء وببسمة لا تفارق محياه

نهل الشيخ عن جده حُبَّ المعرفة والتأمل والاطلاع، عشق الكتاب قبل معرفته بالأبجدية، التحق بمجلس الشيخ والمعلم الكبير "محمد المير أحمد" حفيد الأمير "إسماعيل"، مع مجموعة من الطلاب كـ"علي زهرة" و"علي حسينو" و"اسماعيل الحايك" و"شهاب الدين الحموي" الذين أصبحوا أصحاب شأن فيما بعد، وأتقن القراءة والكتابة وعلم الحساب وحفظ القرآن منذ طفولته، ليبحر بعدها في التحصيل الفكري عند الشيخ "محمد تلجه" الذي كان دليلاً له للوصول إلى هدفه، ولشدة إعجابه به زوّجه ابنته "مريم" التي كانت الداعم الكبير له في مشروعه المعرفي.

الباحث التاريخي غسان قدور

مشروعٌ تنويريّ

المحاضر الأدبي والسياسي مهدي الشعراني

لم يكن هدفه تحصيل وتخزين المعرفة بل نقلها وتعميمها، ولا سيّما أنّه عاش نصف عمره في تجربة مريرة مع الاحتلال العثماني والاستعمار الفرنسي، فكان امتداداً للشيخ "محمد عبدو" في "مصر" و"عبد الرحمن الكواكبي"، ولم يفكر يوماً بجمع رصيد مادي من أرضه وتجارته إلا لخدمة علمه وسد حاجة أسرته.

يشير الباحث التاريخي "غسان قدور" إلى أن الشيخ "عيدو" عمل شيخاً للكتاب، ولقد حباه الله ذاكرة رائعة، حفظ القرآن عن ظهر قلب، وانكب على دراسة نهج البلاغة للإمام "علي"، ولم يكتف بذلك بل بدأ بمطالعة كتب الفلاسفة، ونهل منهم الحكمة، وكان متحدثاً لبقاً في المناسبات الدينية والاجتماعية، في لغته قوة المنطق وجزالة اللفظ وقدرة قلّ نظيرها في اللغة العربية الفصحى.

سليمان يعقوب أحد تلامذة الشيخ عيدو

ويضيف : «كان بهي الحضور وصوته لم يعلُ كخطيب بل كواعظٍ ينثر الحكمة، دمث الخلق، محبّ للفكاهة، ومتواضع، بالإضافة أنه كان خطاطاً رائعاً، وعُين واعظاً فخرياً من هيئة الطريقة والثقافة الدينية لـ"سورية" وبقي فيها حتى وفاته، أولادهُ: الراحلُ "قاسم" كان مستشاراً في الأمم المتحدة، (الجنرال) الراحل "إسماعيل"، المحامي الراحل "أحمد" الذي كان نقيباً للمحامين في "سورية" لفترتين متتالين، "عبد الكريم" و"نزار"، وابنتان "فاطمة" و"نجاح" حاصلتان على إجازة باللغة العربية».

منابعُ الحكمة

بدوره يصف "سليمان يعقوب" 1940 وهو أحد تلامذة الشيخ "عيدو" تجربته مع الشيخ الراحل بالقول: «عندما بلغت الخامسة من عمري أرسلتني والدتي لتعلّم القرآن عند جارنا الشيخ "علي عيدو" وبقيت عنده ثلاث سنوات، كان الراحل تقياً ورعاً، يحكم بين الناس بالعدل، كريماً يقدّم الطعام لكل من يقصده ثم يحلّ له قضيته، وله طريقة محببة في نثر الحكمة وتبسيط المعلومة وتقريبها للذي يخاطبه، بهدوء وببسمة لا تفارق محياه».

ويشير الباحث "مهدي الشعراني" إلى أنّ الشيخ "عيدو" كان غزير الثقافة فقد قرأ كل مؤلفات "سقراط" و"أفلاطون" و"سبينوزا" و"ابن سينا" و"الغزالي" و"الكرماني" و"القاضي النعمان" وكتب "لقمان" و"بوذا" و"زراديشت" وغيرهم، واستفاد من مسيرة هؤلاء العباقرة بمساحة إنسانية واسعة حتى أصبح أكبر المنظرين في تاريخ "سلمية" بأسلوبه الشائق، وغرس حبّ البحث القائم على العقل والفكر الصافي والمجرد من التعصب في نفوس تلامذته، وشعاره (أكرم نفسك بالتعلم وأكرم الآخرين بما تعلمه).

أعمالُهُ

كان نشيطاً لا يعرف الكلل والملل وهمه تنوير المجتمع فكان مع الشيخ "علي حسينو" يجولان على القرى ليلاً ونهاراً على دراجة هوائية يتناوبان على قيادتها غير عابئين بمخاطر الطريق آنذاك، بالإضافة لزيارة المدن السورية، بالمقابل كان بيته مفتوحاً دائماً لكل من يقصده، وزار ولده في "أمريكا"، وتنقل فيها بين خمس عشرة ولاية، ورغم محاولات حثه للإقامة فيها، لكن عشقه لوطنه ومسؤوليته نحو مجتمعه أعاداه إليه.

له مخطوطات عدة بالبحوث والشعر وهي ناتج فلسفته وثقافته المتنوعة، لكن لم يطبع منها شيء وفقدت بعد وفاته ولم تجد ابنته منها إلا القليل، ومن أشعاره:

أحب لقومي وحدة وتضامناً.. وأكره تجزيئاً مميتاً مخربا

أحب من العادات ما هو نافع.. وأكره منها ما يشين المهذبا

أحب ذوي الأخلاق من كل ملة.. وأكره ذا الوجهين مهما تمذهبا

وفاتُه

تعرّض لحادث سير عام 1988 حيث صدمه أحد الطائشين على دراجة نارية، فأصابه بكسر في الفخذ وأسعف لمشفى "سلمية" ثم نقل إلى مشفى تشرين العسكري بتوصية من القائد الراحل "حافظ الأسد"، وبإشراف مباشر من (الجنرال) "توفيق جلول" الذي لازمه كظله يجيبه الشيخ عن كل أسئلته، ولكن تراجعت صحته وتوفي في عصر الرابع عشر من نيسان 1994، لينقل جثمانه لـ"سلمية" ويدفن في منطقة المالحة".

يذكر أنّ الشيخ "علي عيدو" ولد 1902 في "سلمية" وتوفي في 14 نيسان 1994.