دأب "السوريون" القدماء على الاحتفال بأعيادهم وتنظيم الاحتفالات الجماهيرية احتفاءً وتكريماً لها وللآلهة التي ارتبط اسمها باسم هذه الأعياد، التي كانت بمجملها ترمز لمعاني الخصب والعطاء، وقد عكست مظاهر الاحتفال بهذه الأعياد مدى التطور الفكري والحضاري الذي كان يتمتع به" السوريون" في تلك العصور.

تعريفٌ أوليّ..

يبدأ المهندس "نهاد سمعان" الباحث بشؤون التاريخ والتراث حديثه عن تاريخ بعض احتفاليات الأعياد السورية التي وثّقها المؤرخون في فترة القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، ففي المحاضرة التي أقامها فرع جمعية "العاديات" في مدينة "حمص" والتي خُصَّ موقع مدوّنة وطن "eSyria" بتوثيقها والكتابة عنها لاحقاً، يرى "سمعان" أنَّ كلمة (العيد) -حسب ما أكدَّ اللغويون- آتية من الفعل (عاد) وهي مرتبطة باليوم الذي يعود حاملاً معه الفرح، وتطلق عليه تسمية (العيد) الذي تمارس فيه طقوس احتفالية معينة بالإضافة إلى صلوات وابتهالات خاصة تتعلق بالمناسبة التي تستعاد ذكرى الاحتفال بها، وكثير من تلك الطقوس التي كانت سائدة آنذاك ما زال يمارس بعضها حتى أيامنا هذه دون معرفة كاملة من معظم السوريين بأصولها.

هو عيد "النيروز"، وهو مستمد من احتفالات السوريين القدماء المتزامنة مع فترة الاعتدال الربيعي وما يرافقها من تغيرات بحالة الطقس وتجدد الطبيعة، فكلمة "نيروز" هي دمج لكلمتي "نو" التي تعني (الجديد) وكلمة "روز" ومعناها (يوم) ليصبح مسماها (اليوم الجديد)، وكثير من مظاهره مستمدة من الاحتفالات المرتبطة بعيد إله الخصب "أدونيس"، لذا نجد أن الاحتفال بهذا العيد يتم في الهواء الطلق وفي السهول الخضراء الخصبة تحديداً، هذا إن دلَّ على شيء فهو يدل على ثقافة الأعياد السورية القديمة المؤكِّدة لوجود نظام زراعي قديم لدى السوريين القدماء وهذا ما نجده باحتفالات الربيع في "دافنه"

أعيادُ الآلهةِ السورية..

تميّزت الأعياد السورية قديماً -كما يتابع المهندس "نهاد سمعان"- بأنها كانت مرتبطة بأسماء الآلهة عند "السوريين" القدماء على اختلاف عصور حياتهم، التي ترمز بمعظمها إلى الخصب والخير عموماً، كإله البرق والشمس والرعد وإله القمح، وقد جاء ذلك من كون فصول الطبيعة الأربعة واضحة التتابع، كما يؤكد أيضاً الخاصيَّة الزراعية التي تمتعت بها "سورية" منذ القدم وحتى عصرنا الحالي، والاحتفالات التي كانت تقام هي بمجملها لأعيادٍ اعتمدها السكان مع قدوم كلِّ موسمِ حصادٍ خيِّرٍ، وبدورة الطقس السنوية المعتمدة على حسابات النظام الشمسي الذي كان معمولاً به، وقد انعكست بعض تلك الاحتفالات على الأعياد التي ظهرت في قرون ما بعد الميلاد، ونذكر من هذه الأعياد "عيد التجدد" الذي يرمز إلى بداية ازدياد ساعات النهار عن الليل، وتأكيداً لهذا الكلام فإنَّ المقولة التي ما تزال مستخدمة بزمننا الحالي (بعيد البربارة بيطول النهار قمزة فارة)، ويصادف توقيت هذا العيد الذي تحتفل به الطوائف المسيحية في "سورية" تاريخ 5 كانون الأول، ولا ننسى أن نذكر طقوس التنكر التي تمارس فيه من قبل الأطفال بينما كان الكبار هم من يقومون بها في أعياد العصور القديمة، والأمثلة كثيرة عن توارث الأعياد في "سورية" القديمة وطقوسها بالوقت الراهن.

المهندس والباحث التاريخي نهاد سمعان

توارثُ الأعيادِ

المهندس نهاد سمعان أثناء إلقاء المحاضرة

مثالٌ آخر جاء به الباحث "سمعان": «هو عيد "النيروز"، وهو مستمد من احتفالات السوريين القدماء المتزامنة مع فترة الاعتدال الربيعي وما يرافقها من تغيرات بحالة الطقس وتجدد الطبيعة، فكلمة "نيروز" هي دمج لكلمتي "نو" التي تعني (الجديد) وكلمة "روز" ومعناها (يوم) ليصبح مسماها (اليوم الجديد)، وكثير من مظاهره مستمدة من الاحتفالات المرتبطة بعيد إله الخصب "أدونيس"، لذا نجد أن الاحتفال بهذا العيد يتم في الهواء الطلق وفي السهول الخضراء الخصبة تحديداً، هذا إن دلَّ على شيء فهو يدل على ثقافة الأعياد السورية القديمة المؤكِّدة لوجود نظام زراعي قديم لدى السوريين القدماء وهذا ما نجده باحتفالات الربيع في "دافنه"».

العيدُ للجميع..

يصل الباحث "سمعان" بحديثه إلى فترة القرن الثاني قبل الميلاد، والأعياد التي كانت تقام في العاصمة السورية المعروفة آنذاك "انطاكية" التي يصادف قيامها فترة الربيع من كلِّ عام حيث كان الحاكم هو من يُقيم العيد بتوجيهات واهتمام شخصي منه، وكان يدعو لفتح خزائن المملكة لدعوة الأعيان للمشاركة في تنظيم الاحتفالات ودعمها بالأموال اللازمة، وكلُّ ذلك رغبةً منه بأن يعمَّ الفرح والسرور نفوس الشعب بجميع طبقاته، بهدف توحيد نظرتهم صوب مفاهيم الخير والجمال والحق، حتى أن الملوك كانوا يتفاخرون فيما بينهم بجمالية وعظمة الاحتفالات التي كانت تقام في زمن كلٍّ منهم، وهذه الأعياد كانت تقام في منطقة تقع بالقرب من مدينة "انطاكية" تدعى "دافنه" وهي مملوءة بأشجار الغار ومن هنا جاءت التسمية، حيث إن كلمة "دافنه" تعني (الغار) وهي مرتبطة بأسطورة الإله "أدونيس" والحورية التي أحبها وتحولت إلى شجرة غار عندما حاول الإمساك بها، مضيفاً إن الاحتفالات التي كانت تجري في ذلك العيد حسب المؤرخين كانت تشهد بذخاً زائداً، حيث عروض المركبات المطلية بالذهب التي كان يتقدمها الملك ويتبعه فيها آلاف الجنود المرتدين للبدلات الذهبية والفضية، وفرق الخيالة والمواطنين العاديين الذين يضعون تيجاناً من الذهب الخالص، وآلاف الثيران المسمَّنة لاعتمادها كأضحيات ليوم العيد، إضافة لتماثيل من العاج تمثّل الآلهة وأنصاف الآلهة التي كانوا يؤمنون بها.

تطورٌ فكريٌّ

يتابع المهندس "سمعان" شرح بعض الطقوس التي كانت تجري في احتفالات الأعياد بمدينة "انطاكية" فيقول: «كانت هنالك مشاركة واسعة للنساء فيها، حيث كنَّ يقمن بالسير ضمن المواكب وهنَّ متزينات بأبهى الملابس والحلي، وتسند لهنَّ مهمة رشّ العطور على الجماهير المنتشرة على جانبي الطرقات، إضافة لمشاركتهن بالعروض الموسيقية الراقصة التي كانت تشهدها تلك الاحتفالات، وتبرهن على ذلك تلك اللوحة التي تمَّ اكتشافها في قرية "مريمين" الواقعة بريف "حمص" الشمالي الغربي التي تعود إلى ذات الفترة التي نتحدث عنها، والتي تظهر فيها النسوة يعزفن على آلة موسيقية تشبه في يومنا هذا آلة "الأورغ" وهذا دليل آخر على مدى الانفتاح الفكري والاجتماعي الذي كان سائداً لدى السوريين بتلك العصور، ليس ذلك فحسب بل أيضاً التطور العمراني القائم حينها، من خلال جمال البناء ووجود شبكات المياه ضمن المدن، وهذا ما أكَّده "ليمانوس" أحد فصحاء مدينة "أنطاكية" الموثِّق لتلك الحقبة حينما ذكر (تحلُّ أنوار أخرى مكان نور الشمس وهي مصابيح تفوق بكثير احتفال المصريين بالنور، وعندنا يتميز الليل عن النهار باختلاف وسائل التنوير فقط)، هذه الدلائل كلها تقودنا لتخيل مستوى التطور الحضاري فكراً وثقافةً وعمراناً في مدن "سورية" القديمة وسكانها.

نذكر نهاية بأنَّ المهندس "نهاد سمعان" لديه العديد من المؤلفات والأبحاث المعنية بأمور التاريخ والتراث وقد ألقى محاضرته بتاريخ 15 من شهر أيلول الفائت في "قصر الثقافة" بمدينة "حمص".